في الوقت الذي تتراجع فيه قدرة المستشفيات في غزة على تقديم خدماتها الطبية لمئات الآلاف من الفلسطينيين، يتضاعف العبء على الأطباء العاملين وسط أنقاض منشآت صحية تحوّلت إلى أهداف ثابتة لجيش الاحتلال. وتشير شهادات أطباء تطوعوا للعمل في القطاع إلى أن المنظومة الصحية تواجه انهيارًا شبه كامل، في ظل استمرار منع جيش الاحتلال دخول المساعدات الإنسانية بكافة أشكالها، بما في ذلك الوقود والإمدادات الطبية.
ومن مستشفى الشفاء إلى المستشفى الأهلي المعمداني، تتكرر فصول المأساة يوميًا: أدوية مفقودة، أجهزة متوقفة عن العمل، ومرضى تُركوا لمصيرهم في معركة من أجل البقاء على قيد الحياة.
في المقابل، حذّرت عشرات التقارير الصادرة عن منظمات أممية ودولية من تفاقم أزمة سوء التغذية في قطاع غزة، الذي يقطنه نحو 2.2 مليون نسمة، بينهم أكثر من مليون طفل، وسط مخاوف متصاعدة من تفشي المجاعة.
"كانت الأكفان ملطخة بالدماء"
بهذه العبارة لخص الطبيب التركي إبراهيم أويغون، الذي عمل أكثر من شهرين في قطاع غزة، بعضًا من مشاهداته الصادمة. وقد نقل في شهادته حجم الدمار والمعاناة الإنسانية تحت الحصار والقصف، مؤكدًا أن غالبية المستشفيات دُمرت بشكل ممنهج وأصبحت غير صالحة للاستخدام أو الترميم، وأن الوضع الصحي والغذائي يزداد تدهورًا يومًا بعد يوم.
في الوقت الذي تتراجع قدرة المستشفيات في غزة على تقديم خدماتها الطبية لمئات الآلاف من الفلسطينيين، يتضاعف العبء على الأطباء العاملين وسط أنقاض المنشآت الطبية
وقال أُويغون لوكالة "الأناضول" إن مستشفى الشفاء في مدينة غزة، إلى جانب المستشفيين الإندونيسي وكمال عدوان، "يأتي في مقدمة المنشآت الصحية التي تم تدميرها بالكامل"، مشيرًا إلى أن المستشفيات الكبرى أصبحت خارج الخدمة، ولم يتبق في القطاع سوى جهازين للتصوير المقطعي، أحدهما في مستشفى الناصر جنوب القطاع، والآخر في المستشفى الأهلي المعمداني شمالًا.
وبحسب أُويغون، تمكن من دخول غزة بعد ثمانية أشهر من الانتظار، عبر معبر كرم أبو سالم، الخاضع لسيطرة جيش الاحتلال، وذلك ضمن بعثة طبية تابعة لجمعية الأطباء الأوروبيين وبرعاية منظمة الصحة العالمية. وأكد أأن ما شاهده في غزة يفوق الوصف، قائلًا: "الدمار هائل. لا يمكن رؤية منزل أو سيارة أو مكان لم يتعرض للقصف. حتى الحيوانات نادرًا ما ترى على قيد الحياة". وأضاف: "عندما دخلنا، رأينا المستشفيات محطّمة، وتأثرنا بشدة بما شاهدناه".
وأشار إلى أن المستشفيين المعمداني والناصر، رغم صغر حجمهما، باتا يقدمان خدمات طارئة شبه حصرية للسكان، في ظل انهيار شبه كامل للمنظومة الصحية. وتابع: "في مستشفى المعمداني حيث عملت، كانت تصلنا أعداد كبيرة من الشهداء. كانت الأكفان ملطّخة بالدماء، وكانوا يُصلّون على الجثامين مباشرة على الأرض".
استهداف ممنهج للمستشفيات
كشف أُويغون أن استهداف المستشفيات يتم بشكل ممنهج، حتى خلال فترات وقف إطلاق النار المفترضة، قائلًا: "كنت شاهدًا على سقوط ما بين ثلاثة إلى خمسة شهداء يوميًا بفعل الطائرات المسيّرة، رغم الحديث عن هدنة". وأضاف "في إحدى الليالي، استُشهد 412 شخصًا، ثم ارتفع العدد إلى 500".
وفيما يتعلق بالوضع الغذائي، أكد الطبيب التركي أن منع دخول المساعدات أثر بشكل كارثي على صحة السكان، مضيفًا: "رأينا صورًا للناس قبل الحرب وبعدها، وكانت هناك خسارة تصل إلى 30 كغ في الوزن. لا يوجد طعام، والمجاعة منتشرة".
منظمة "أطباء بلا حدود" وصفت قطاع غزة بـ"المقبرة الجماعية" للفلسطينيين وللكوادر الطبية والإنسانية التي تحاول إنقاذهم.
اقرأ المزيد: https://t.co/rfi6isxmat pic.twitter.com/UHMOntxPmi
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) April 16, 2025
وأشاد بصمود سكان غزة، خاصة النساء، قائلًا: "النساء في غزة يتمتعن بكرامة عظيمة. حتى في الخيام أو البيوت المدمرة، كنّ يخرجن بملابس نظيفة ويهتممن بأطفالهن، ولا يقبلن بالمساعدات بسهولة".
عشرات المستشفيات والمراكز الصحية المدمرة
وكان المستشفى المعمداني، الذي يُعد من أقدم مستشفيات غزة ويقع شمال حي الزيتون جنوب المدينة، قد تعرّض لقصف إسرائيلي فجر الأحد الماضي، ما أدى إلى تدمير أحد مبانيه واندلاع حرائق واسعة في أقسامه، ما أدى إلى خروجه عن الخدمة، وهو من آخر المستشفيات العاملة في شمال القطاع.
وتُفيد الإحصاءات الرسمية في غزة أن جيش الاحتلال دمّر 34 مستشفى من أصل 38، بالإضافة إلى إخراج 80 مركزًا صحيًا عن الخدمة بشكل كامل، وتدمير 162 مؤسسة طبية. كما منعت حكومة الاحتلال إدخال جميع أنواع المساعدات الإنسانية منذ 2 آذار/مارس الماضي، ما تسبب في كارثة إنسانية ومجاعة متفاقمة.
وأكد شهود عيان تحدثوا لـ"ميدل إيست آي" أن العدوان الإسرائيلي على المستشفى جاء بعد 18 دقيقة من إصداره أمرًا يطلب من المرضى والمرافقين المدنيين، بالإضافة إلى الطواقم الطبية إخلاء المستشفى فوريًا، الأمر الذي أجبرهم على إخلاء المرضى دون رعاية صحية كافية وفي ظروف مناخية قاسية، مما أسفر عن وفاة ثلاثة مرضى على الأقل، بينهم طفل مصاب في الرأس.
انهيار شبه كامل للقطاع الصحي
بحسب أحدث تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، يواجه القطاع الصحي في غزة انهيارًا شبه كامل، وسط نقص حاد في الدواء والمعدات وغياب إمكانية الإمداد، نتيجة القيود الإسرائيلية على الوصول الإنساني. وأفاد المكتب الأممي بأن 4 بعثات طبية من أصل 6 تم منعها، بينها واحدة لجلب الوقود الحيوي للمرافق الصحية، مما يعرض حياة مزيد من المرضى للخطر في ظل توسع العدوان الإسرائيلي على مختلف أنحاء القطاع.
🔴 استهداف تكايا #غزة.. طعام مغمس بالدم.@palestineultra pic.twitter.com/TMhkQJRb3C
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) April 15, 2025
وأشار المكتب الأممي إلى ارتفاع معدلات سوء التغذية الحاد وانخفاض كبير في عدد الأطفال المستفيدين من التغذية التكميلية خلال شهر آذار/مارس الماضي. وبالرغم من الجهود المستمرة، بما فيها توزيع مليون وجبة يوميًا، لا تزال المساعدات غير كافية، في وقت يعتمد فيه أكثر من 2.1 مليون شخص على الدعم الإنساني. ويحذر العاملون من تدهور إضافي في غياب أي تدخل دولي عاجل.
ووفقًا للمتحدثة باسم المكتب الأممي، أولغا تشيريفكو، فإن "حوادث الإصابات الجماعية أصبحت الآن هي القاعدة"، لافتةً إلى أن "المستشفيات التي تعالج مرضى الصدمات تفعل ذلك وسط نقص حاد في الإمدادات الحيوية، بما في ذلك الأدوية الضرورية". وأضافت في تصريحها "نشرف على نفاد الغذاء والدواء والمأوى وكل ما هو ضروري للحياة إذا لم يتغير الوضع فورً، مؤكدة أن "الكارثة ستزداد في غزة سوءًا، وستزداد احتياجات الناس"، في إشارة لمنع الاحتلال دخول المساعدات.
وقالت وزارة الصحة الفلسطينية إن عدد الشهداء جراء حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 ارتفع إلى 51,065 شهيدًا، من بينهم 1,691 استشهدوا منذ استئناف الاحتلال عدوانه على القطاع في 18 آذار/مارس الماضي. ووفقًا لإحصائية الصحة يشكل الأطفال والنساء النسبة الأكبر من عدد الشهداء بنسبة تُمثل 75,7%.