"أجلس وحدي وأحدّث نفسي": مأساة عائلة جزائرية استغلها المهربون والوسطاء
28 أغسطس 2025
في مدينة بوسماعيل الساحلية غرب الجزائر العاصمة، تغادر زهية كل صباح منزلها المتواضع الذي تعيش فيه مع أحفادها الأربعة، متجهةً إلى عملها في تنظيف مدرسة ابتدائية. منذ عام كامل وهي تتحمل وحدها عبء أسرة مكسورة، بعدما مزّق موت ابنتيها شمل العائلة.
امرأة خمسينية حملت على كتفيها أثقال الفقد واليتم معًا. وجدت نفسها مسؤولة عن تربية أربعة أحفاد بعد أن فقدت ابنتيها فريال وسهام، وحفيدها الصغير أمجد، في واحدة من أكثر قصص الهجرة مأساوية.
قصة زهية ليست مجرد مأساة شخصية، بل شهادة حية على الوجه القاتم لأزمة الهجرة في البحر المتوسط، حيث يترصّد المهرّبون والوسطاء أحلام العائلات الباحثة عن حياة أفضل، ليحوّلوها إلى مآسٍ مضاعفة.
الرحلة التي تحوّلت إلى كابوس
في 5 تشرين الأول/أكتوبر 2021، قررت فريال، البالغة من العمر 23 عامًا، وزوجها عيسى، أن يشقا طريقهما نحو إسبانيا برفقة طفلهما أمجد البالغ عامين، عبر البحر. لم يكن أي منهما يملك عملًا ثابتًا، وإن كان عيسى يعمل أحيانًا كدليل سياحي، لكنهما كانا مصممين على البحث عن حياة أفضل.
دفع الزوجان للمهرب مبلغًا يقارب خمسة آلاف يورو، على أمل الوصول إلى جزر البليار قبالة الساحل الشرقي لإسبانيا. ويُقال إنهما كانا يعرفان المهرّب الذي تولى تنظيم الرحلة.
قصة زهية ليست مجرد مأساة شخصية، بل شهادة حية على الوجه القاتم لأزمة الهجرة في البحر المتوسط، حيث يترصّد المهرّبون والوسطاء أحلام العائلات الباحثة عن حياة أفضل، ليحوّلوها إلى مآسٍ مضاعفة
وبحسب وكالة الحدود الأوروبية لحرس الحدود والسواحل "فرونتكس"، يحاول آلاف الأشخاص سنويًا عبور غرب المتوسط من الجزائر نحو جنوب إسبانيا، ويدفعون للمهرّبين مبالغ تتراوح بين 900 يورو و20 ألف يورو.
أما الأم زهية، فتقول لصحيفة "الغارديان" إنها لم تكن تعلم أن رحلة ابنتها ستتم بشكل سري، مضيفة: "قالت لي إنها ستسافر بوثائق رسمية، وإن المنظم سيوفر لها جواز سفر. لم تذكر أبدًا أنها ستهاجر بطريقة غير قانونية".
الرسالة الأخيرة قبل الغرق
قبل انطلاق القارب، أرسلت فريال صورة إلى شقيقتها سهام (27 عامًا آنذاك): بدت جالسة إلى جانب أمجد الصغير، ملامحها هادئة، ويدها مرفوعة بعلامة النصر. تلك كانت آخر لحظة حياة تُوثّقها العائلة.
مرّت الساعات ثم الأيام من دون أي خبر عن فريال أو زوجها عيسى أو الركاب السبعة الآخرين. حلّ الصمت مكان كل شيء: لا اتصالات، لا رسائل، فقط شائعات على منصة "فيسبوك" عن قارب مهاجرين صغير اختفى في عرض المتوسط بعدما أبحر من شمال الجزائر نحو جزر البليار. ومع غياب أي تواصل، تملّك الخوف قلب زاهية وابنتها سهام من أن الأسوأ قد وقع بالفعل.
البحث المرهق والاستغلال القاسي
لا يتوفر أي دعم يُذكر للعائلات التي تبحث عن أحبائها المفقودين في رحلات الهجرة غير النظامية. لم تكن زهية أو سهام تملكان المال للحصول على تأشيرة والسفر إلى إسبانيا. أما السلطات الجزائرية فلا تتدخل إلا إذا عُثر على جثة لمواطن جزائري، لتنسّق حينها مع الجانب الإسباني في إجراءات تحديد الهوية وإعادة الجثمان.
في مواجهة هذا الفراغ، تحوّلت سهام إلى المحرّك الأساسي للبحث عن شقيقتها. تواصلت مع ناشطين ومنظمات حقوقية في إسبانيا، وظهرت في فيديوهات مؤثرة تروي المأساة. في أحد مقاطعها قالت: "لا أب لي ولا أخ. أخذت المسؤولية وحدي، ولم أرد أن أُثقل على أمي. لو كان لدي أب أو أخ، لكنت اكتفيت بالبكاء في البيت وترك الأمر لهم."
لكن رحلة البحث قادتها إلى شبكة من الاستغلال. ففي 21 تشرين الأول/أكتوبر 2021، أفادت صحيفة "Diario de Ibiza " الإسبانية بأن الحرس المدني عثر على جثتين متحللتين لرجل وامرأة على شاطئ جزيرة فورمينتيرا (إحدى جزر البليار)، ورجّحت أن تكون إحداهما لقبطان القارب. ووفقًا لوثيقة تصريح بالدفن، وُوريت الجثتان الثرى في المقبرة البلدية بتاريخ 9 تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه.
مع انتشار خبر القارب المفقود، راجت تكهّنات بأن الجثة تعود لفريال، لكن من دون أي تأكيد رسمي. وتقول زهية إن سهام تواصلت مع شخص قدّم نفسه على أنه موظف سابق في منظمة إسبانية مختصة بتحديد هوية المهاجرين المفقودين، وزعم أن لديه معلومات عن إحدى الجثث، طالبًا منها تقديم وثائق رسمية للمساعدة في التعرف عليها.
غير أن تقارير عدة أفادت بأن بعض العائلات طُلب منها دفع مبالغ مالية مقابل الحصول على معلومات عن أحبائها، الأمر الذي دفع السلطات الإسبانية إلى فتح تحقيق شمل موظفين في منظمات غير حكومية وأطباء شرعيين وعمال دفن، بتهمة تسريب صور ومعلومات حساسة عن جثث المهاجرين مقابل المال.
تأكيد المصير وإعادة الجثمان
أرسل الموظف السابق صورًا من تشريح جثة فريال إلى سهام عبر "فيسبوك"، ما أصابها بصدمة وانهيار نفسي. وفي بث مباشر على "فيسبوك"، قالت سهام: إن "صور أختها استُخدمت لاستغلال عائلات مهاجرين آخرين عبر إيهامهم بأنها تخص أبناءهم، بهدف ابتزازهم والحصول على مبالغ مالية". هذا الاستغلال دمّر نفسية سهام، وتركها في حالة انهيار متواصل.
بعد ضغوط متكررة، خضعت الجثة التي عُثر عليها في جزيرة فورمنتيرا الإسبانية لاختبار (DNA)، النتيجة جاءت مؤكدة: إنها فريال. وبعد انتظار طويل، أُعيد جثمانها إلى الجزائر في آذار/مارس 2023. أما جثتا عيسى وأمجد فلم يُعثر عليهما حتى اليوم. لكن الخبر لم يكن ختامًا للكارثة.
انتحار سهام ووجع لا ينتهي
لم تستطع سهام تجاوز صدمة الصور ولا موت شقيقتها، فانزلقت إلى اكتئاب عميق. وبعد عام ونصف، أنهت حياتها بقرار مأساوي، تاركة أربعة أطفال في رعاية والدتها زهية. الأم المكلومة تروي بحسرة ما حدث: "ابنتي لم تتحمل ما رأت. كانت تخفي ألمها عني، لكنها عاشت وحدها مع صور أختها حتى انهارت".
وتُقر زهية بندم ثقيل أنها لم تتحمّل بنفسها مسؤولية طلب العدالة قبل أن تفقد ابنتها الثانية: "سهام كانت تنوي رفع شكاوى ضد كل من تلاعب بها أثناء بحثها عن أختها… لكنها رحلت قبل أن تتمكن من ذلك".
لم تستطع سهام تجاوز صدمة الصور ولا موت شقيقتها، فانزلقت إلى اكتئاب عميق. وبعد عام ونصف، أنهت حياتها بقرار مأساوي، تاركة أربعة أطفال في رعاية والدتها زهية
المتوسط.. مقبرة مفتوحة للمهاجرين
قصة فريال وسهام ليست سوى جزء من مشهد مروع واسع. وفق بيانات المركز الدولي لتطوير سياسات الهجرة(ICMPD)، فقد لقي نحو 3387 شخصًا حتفهم أو فُقدوا في البحر المتوسط عام 2024 وحده.
وفي آب/أغسطس الجاري، رصدت وكالة "رويترز" وصول أكثر من 600 مهاجر غير نظامي على متن 30 قاربًا إلى جزر البليار، انطلقت جميعها من السواحل الجزائرية. ومع اقتراب فصل الخريف وما يحمله من تقلبات مناخية، فضلًا عن تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية، تتصاعد موجات الهجرة غير النظامية بوتيرة لافتة، ما يعكس تصاعد موجات الهجرة غير النظامية.
صرخة في صمت المتوسط
تجلس زهية اليوم وحيدة في بيتها المتواضع في بوسماعيل، ترعى أحفادها الأربعة وتحاور صمتها الثقيل: "أجلس وحدي وأحدّث نفسي"، في محاولة لملء الفراغ الذي خلّفه فقدان ابنتيها وحفيدها.
تلقي باللوم على المهرّبين وعلى من يستغلون عائلات المفقودين في رحلات البحر الخطيرة. وتقول: "لقد وضعونا في حالة بؤس لا تُطاق".
قصتها ليست مجرد مأساة عائلية، بل شهادة حيّة على ثمن الهجرة غير النظامية، وجرس إنذار جديد يذكّر بأن المتوسط ما زال يبتلع الأرواح، وأن الطريق إلى الضفة الأخرى محفوف بالاستغلال والخذلان. وبينما تستمر المآسي، تظل الحلول الإنسانية العادلة غائبة، تاركةً وراءها آلاف العائلات الممزقة تبحث عن عزاء وعدالة لم تأتِ بعد.