03-ديسمبر-2019

يتضمن كتاب إيمان مرسال تنوعًا بصريًا وتاريخيًا (فيسبوك)

كان من الصعب وأنا أقرأ تحفة إيمان مرسال الفنية "في أثر عنايات الزيات" أن أُحدد بالضبط نوعية هذه الكتابة وإلى أي لون تنتمي، فأسلوب الشاعرة الواضح في اختيار الكلمات بعناية والعمق الأخّاذ في تفاصيل كل حكاية والبحث الكثير وراء كل تفصيلة يجعل القارئ على يقين بأنه لا يقرأ كتاب سيرة ذاتية عن الروائية صاحبة الرواية الواحدة التي انتحرت وهي شابة في مقتبل عمرها، وإنما هو في رحلة ممتعة في حياة المدينة تاريخًا وجغرافيا وديمغرافيا، اقتصادًا وسياسة وأدب وفن واجتماع، تلك اللوحة المدهشة والعميقة التي لا تترك قارئها في كل سطر دون جرعة من المتعة وإن كانت حزينة.

كان من الشيق والممتع في الكتاب هذا التنوع البصري والتاريخي المدهش، من مشهد القبور وعالم أهله المنسيين إلى الطبقات المتوسطة والبرجوازية

لا أعرف إن كانت الكاتبة قد أرادت في بداية الأمر أن تكتب رواية عن رحلة بحثها وراء الكاتبة غير المعروفة وحكايتها الأليمة، أو أنها كانت تبحث وراء أسباب انتحار كاتبة شابة رحلت قبل أن تلمس بيديها روايتها مطبوعة أم أن الراحلة عنايات نفسها هي من أرادت لهذا الكتاب أن يُصنع بهذه الطريقة لتُعيد علينا قصة حياتها وتجعلنا نعيش في تفاصيلها الشخصية وحكايات زمنها بأكمله من خلالها، ليستمر وجودها حتى بعد موتها تحقيقًا لعنوان الكاتبة حُسن شاه عن حياتها "لن أموت أبدًا"، إلا أن ما تقرأه بوضوح في الكتاب هو أن الكاتبة لم تدخر متعة في رحلتها على قرائها، حيث ترسم في كل صفحة لوحة مختلفة شكلًا ومضمونًا، لوحات ربما سيتعرف كثير من القرّاء على بعض تفاصيلها وكأن القاسم المشترك بين الحكايات والقرّاء أكبر مما تخيلته الكاتبة نفسها.

اقرأ/ي أيضًا: إيمان مرسال.. الشعر في جنّة السرد

كان من الشيق والممتع في الكتاب هذا التنوع البصري والتاريخي المدهش، بين مشهد القبور وعالم أهله المنسيين تحت خطوط الفقر ولياليه التي تشهد أحيانًا حفلات ذكر وموالد وأفراح ومشاهد تليها لأحياء المدينة وأصحابها من الطبقات المتوسطة والبرجوازية، كذلك كان الانتقال السلس والسهل في الحكايات بين باشوات وأعيان القرنين الماضيين من تاريخ المدينة وحكايات أخرى لم تنتهِ بعد حول السياسة والاقتصاد، التأميم والخصخصة، الشمولية والانفتاح، تقلب الزمن ومعه شخصيات وطبقات، حكايات ليست أقل متعة عن الفن وصنّاعه وكتابه ونقّاده.

هنا حكاية عن شركة مصر للألبان تنطلق من محل ألبان تبحث عنه، فتأخذك إلى بداية مشروع عملاق منذ نشأة فكرته ومرورًا بدورة حياته انتهاءً للحظة كتابتها تلك السطور، وهناك حكاية عن هيئة المساحة تاريخها وقصتها حتى مشاهد موظفيها وهم يأكلون كعك العيد في مشاهد أقرب إلى الأفلام الوثائقية الممزوجة بلوحات تاريخية وصور فوتوغرافية يومية، وفي غفلة تأخذك إلى قانون الأحوال الشخصية، تروي لك مُعاناة المرأة المصرية، مشوار القمع الذي تعرضت له بفعل قوانين جائرة، مراحل النضال من أجل تغييرها، ظروف وملابسات وحكايات تلك التفاصيل التي ربما لن تجدها في كتب التاريخ ولا القانون.

كان من البديع حقًا مهارتها في الكاتبة وفي ربط كل تلك الحكايات والتفاصيل والمشاهد والصور والأبحاث بحكاية الأديبة المسكينة ومآسيها الشخصية والعملية والنفسية والاجتماعية، وكأنها تُريد أن تقول إن كل واحد من هؤلاء السائرين في الشوارع هو عالم بمفرده، جزء لا يتجزأ من تاريخ الحياة وواقعها، فحكاية الراحلة في سنوات تعليمها ستكشف لك ملمحًا من ملامح الحياة التعليمية والطبقات الاجتماعية في ذلك الزمن وهو ما سيدفعك للمقارنة بزمنك، مشاكلها مع زوجها وعلاقتها بطفلها ستُحيلك إلى واقع النساء في زمن مضى، وتُذكرك بقضايا حالية ستكتشف بأنها أكبر وأعظم من أن تكون هامشية، حكايات الفن مع نادية لطفي "بولا" ولقطات من تراث جميل يصحبه زخات من عطر النوستالجيا والحنين الساحر.

ما تقرأه بوضوح في الكتاب هو أن الكاتبة لم تدخر متعة في رحلتها على قرائها، حيث ترسم في كل صفحة لوحة مختلفة شكلًا ومضمونًا

تبدأ الكاتبة رحلتها إلى الراحلة من المقابر لسبب ما ربما تحقيقًا لجملة غامضة وردت في مذكراتها القليلة "يجب أن تبدأ الرحلة من المقابر"، لتنتقل بعد ذلك إلى قصور وفلل الهوانم والبهوات والباشوات، طريق تمشيه الكاتبة مع قرائها خطوة بعد خطوة تتبع فيها أثر الراحلة ومعها أثر الزمن على الناس وكأنها رواية لنجيب محفوظ يسرد فيها تاريخ المجتمع عبر حكايات أبطاله. القبور والقصور، مصائر العائلات وما تبقى منهم من أفراد، الشوارع والحارات، أشخاص من جنسيات مختلفة ارتبطت حياتهم بحياة هذه المدينة فصاروا جزءًا منها وصارت جزءًا من تاريخهم، رحلة عبر آلة الزمن تروى نافذتها أساطير تطوى، وسلاطين توارى، مشاهير يختفون وأشخاص عاديون يلمع نجمهم قبل أن يختفي ثانية، ترى يد الزمان الباطشة بأدواته البشرية كيف تقسو على الناس فتقتل الفرح في قلوبهم وتدفعهم دفعًا إلى نهايات سريعة، نهايات للأحلام وللمشاريع والمشاوير حتى تصل إلى نهاية الحياة نفسها، وآخرين يبعثون الحياة في نفوس الآخرين.