24-نوفمبر-2015

تزفيتان تودوروف

يحكي عماد أبوصالح في كتابه "الشاعر مهندس العالم" كيف كان يمشي وحيدًا وشاردًا في شارع سليمان باشا، مثلما اعتاد أن يفعل كلما كان مرعوبًا من البقاء وحده في غرفته بالليل. ليفاجأ بيد ثقيلة وخبيرة وباردة كأنها يد مخبر، كما يصفها، تحط على كتفه. فيستدير مرتجفًا. ليزعق فيه صاحب اليد، وهو يشير بإصبعه في عينه ولعابه يغطي وجهه: "أنت تستثمر في كتابك الثالث ما فعلته في كتابك الثاني".

وقف تودوروف ضد "الأنانة"، حين تكون أتفه تجارب الكتّاب الجنسية وتفاصيلهم اليومية مادةً صالحةً لحشو النصوص

بدت كلمة "تستثمر" غريبةً وفظةً وجارحةً أعادته يائسًا وحزينًا إلى بيته. سحب روايةً ليقرأ فيها هذه الكلمات، صغيرةً ومضغوطةً عن الكلمات الأخرى، كأنها رسالة مخبأة كتبها صاحب الرواية سلفًا ليقرأها هو في مثل هذه الليلة فتكون عزاءً له عن الكلمة الفظة التي صُفِعَ بها وتكون توصيفًا جيدًا لشريحة عريضة من النقاد الذين يتعاملون مع النصوص بآلية القضم دون التمييز:"سيدي، قالت دودة طويلة سمينة، نحن لا نفهم شيئًا على الإطلاق بين النصوص التي نقضمها، كما أننا لا نختار النصوص التي نقضمها، كما أننا لا نحب أو نكره ما نقضم. نحن نقضم".

الصورة التي قدمها أبوصالح عن النقاد في كتابه وسلح الشعراء ضدها كاتبًا نصائحه لشاعر يقول له ناقد أنت متأثر، ولشاعر يقول له ناقد أنت تكرر نفسك قوضها بعرضه نموذج تزفيتان تودوروف في المقابل كإجابة عن سؤال ما الذي يفعله الناقد هو نفسه. مصورًا تودوروف جراحًا ينكفي على مشرحته مدة ربع قرن ليُعمل مبضعه في النصوص التي تقدم إليه دون أن يعرف صاحبَها قبل أن يتوقف صائحًا: "أريد معنىً لحياتي، لا بد أن أوقف هذه المهزلة". وبعد أن كتب كتابيه: فتح أمريكا، كتابه الأول خارج حقل النظرية الأدبية والتحليل الأدبي، ونحن والآخرون، يرد على لسانه في كتاب عماد، أنه قال لأحد زملائه الأكاديمين القدامى تعليقًا على قوله لماذا فضحتنا؟! :"دعني أبني بيتًا. أنا كنت مثل النجار الذي ظل طول عمره يصنع أدوات النجارة".

لم يكن التحول في حياة تودوروف الفكرية بمعزل عن سيرته الشخصية التي قدمها بنفسه في مقدمة كتابه "الأدب في خطر"، الذي يحمل دعوته إلى تحرير الأدب من سيطرة النزعات الثلاث التي تهيمن على عالم الكتابة اليوم: الشكلانية "حيث تكون الكتابة نفيًا للتمثيل"، والعدمية "وهي تمثيل للنفي"، و"الأنانة" حين تكون أتفه تجارب الكتّاب الجنسية وتفاصيلهم اليومية مادةً صالحةً لحشو النصوص، وإدانته تعليم الأدب في فرنسا وتحول النظريات النقدية من وسيلة لفهم العمل الأدبي إلى غرض في حد ذاتها، وهو أمر غير بعيد عن الواقع الأدبي العربي، ونقده نظرية الفن للفن متتبعًا تاريخها في نشأة علم الجمال الحديث، وكيف أسهمت العلمنة المتزايدة للتجربة الدينية في قدسنة الفن ليصبح الفنان مماثلًا للإله المبدع والعمل الفني عالمًا مكتفيًا بنفسه، فلم يعد الجمال مرتبطًا بالخير والحق كما في المنظور الأفلاطوني، ولم تعد الفاعلية ضمن دائرة التفكير وقد صارت المنتجات الفنية موضوعًا خالصًا للتأمل ونتجت بالتالي الحاجة إلى أماكن لاستهلاكها: المتاحف بالنسبة للوحات بدلًا من الوظائف المتنوعة التي كانت تؤديها في الكنائس والقصور. 

وأشار إلى الترابط الآلي بين هذا النوع من المكان وشكل الإدراك الذي يفرضه عبر مثال مبولة مارسيل ديشان التي "أصبحت بفضل موقعها وحده واحدة من الأعمال الفنية رغم أن سيرورة صنعها تختلف عن سيرورة صنع لوحة أو منحوتة فنية". 

بات تودوروف واحدًا من أهم المدافعين عن الإنسانية، جنبًا إلى جنب مع إدوارد سعيد ونعوم تشومسكي

نشأة تودوروف في نظام كلياني، بلغاريا أيام كانت جزءًا من الكتلة الشيوعية، تسيطر الأيديولوجيا الرسمية فيه على دراسة الآداب وتقيس الأعمال الأدبية بمدى توافقها مع العقيدة الماركسية اللينينية، كانت دافعه الأول للتوجه نحو الاهتمام بالعناصر الفنية المشكلة للنصوص التي بلا حمولة أيديولوجية، وحينما أتيحت له فرصة السفر إلى فرنسا لاستكمال دراسته، فكر في أن مسائل التقنية الأدبية: الأسلوب والتركيب واللغة والأشكال السردية والنظرية الأدبية التي كانت مهملة في بلغاريا، لأنها لا تخدم النظام الشيوعي، ستكون مدروسةً بوفرة في بلد تسوده الحرية غير أن دراسة الأدب في فرنسا كانت خاضعة لشبكة الأمم والقرون عكس ما توقع. 

واصل تودوروف بحثه في نفس الاتجاه لكنه بانخراطه التدريجي في مجتمع فرنسا التعددي الديموقراطي، الذي يحترم الحريات الفردية، تغيرت مقاربته للأدب: "حينما لم تعد الحياة خاضعة للمعتقدات الأيديولوجية لم يعد هناك مبرر لتهميش الأفكار والقيم التي تعبر عنها الأعمال الأدبية". 

من هنا شعر بالحاجة إلى التزود بأدوات جديدة كمفاهيم علم النفس والتاريخ والأنثروبولوجيا، واتسعت نظرته للأدب لتشمل نصوصًا أخرى لا تشارك الأعمال الأدبية وضعية التخييل، مثل حكايات الرحالة والغزاة الإسبان في القرن السادس عشر، وحكايات معاصريهم من السكان الأصليين لأمريكا الوسطى، مفكرًا في الطريقة المثلى التي يجب أن نتعامل بها مع الآخر عبر أمثولة "فتح أمريكا" بتحليله الأبعاد الدلالية في كتابات المشاركين بها، وكشفه عن الدور الذي تلعبه اللغة في الصراع الحضاري. كذلك حكايات المعتقلين سابقًا في المعسكرات الروسية والألمانية، ليصبح بفضل كتاباته التي تكشف ما يفعله الإنسان ضد الإنسان من جرائم، محاولًا تفادي تكرارها في الوقت الحاضر، واحدًا من أهم المدافعين عن الإنسانية، جنبًا إلى جنب مع إدوارد سعيد ونعوم تشومسكي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"كان نائمًا حين قامت الثورة".. ما لن يقرأه السيسي

مسألة الانتماء