01-مايو-2016

طفل في حلب

في المخيّم، الأشهر الأولى للانتفاضة الثانية، برزت أسماء فلسطينية، أو كانت بارزة وازداد بروزُها آنذاك للأمسيات التي كانوا يلقون فيها قصائد، كخالد أبو خالد، أو لمقالات ينشرونها، كرشاد أبو شاور، وكانت جميعها سياسيّة. في المخيّم، سعيتُ مرّة للوصول إلى كتابات أدبيّة لكليْهما ولآخرين، سعيٌ لم يتعدَّ الكتاب الأوّل الذي وجدته. وما قرأته، أدبًا ومقالات، ساهم في أمريْن: تشكيل وعيٍ زائف بالقضيّة الفلسطينيّة وتشكيل ذائقة أدبيّة زائفة هي الأخرى، أظنّني تركتها عندما لم أجد سببًا يجعلني أبحث عن الكتاب الثاني لهذا وذاك.

لم يبقَ من أبو خالد وأبو شاور غير الاسم القديم الذي حفّز شبابًا فلسطينيين في مرحلة ما على قراءة أعمال أدبية لأسباب غير أدبيّة

إلى ما قبل الثّورة السورية، لم يبقَ من أبو خالد وأبو شاور غير الاسم القديم الذي حفّز شبابًا فلسطينيين في مرحلة ما على قراءة أعمال أدبية لأسباب غير أدبيّة، بل لسبب صوتيْهما العالي في الحديث عن الانتفاضة، فكانت القراءة الأدبيّة فعلًا سياسيًا متحمّسًا، ولم يحُل ذلك دون أن تنتأ الرّداءة في النَّص المقروء.

اقرأ/ي أيضًا: قتلتُ لأنني أردتُ أن أحيا

اليوم، بعد خمس سنوات على الثّورة السورية، اليوم تحديدًا، الآن ونظام الأسد يستمر في قصفه مدينة حلب، المدينة التي اختارها جدّي ملجأً أخيرًا قبل سبعين عامًا، اليوم نقرأ خبرًا عن زيارة خالد أبو خالد (شاعر) ورشاد أبو شاور (روائي) واثنيْن آخرين بالكاد جديريْن بذكر اسميْهما، مراد السوداني (أمين عام اتحاد الكتاب والأدباء في رام الله) ووليد أبو بكر (عضو في أمانة الاتحاد ذاته)، نقرأ عن زيارتهم إلى دمشق المحتلّة من قبل الحزب الفاشي والتقائهم بنائب مجرم الحرب هناك.

وإن كان واحدنا قد تحرّر باكرًا من الرّداءة الأدبية لهؤلاء، أتكلّم عن أوّل اثنين، فالسوداني وأبو بكر أقلّ من أن يُقرأ لهما قصيدة أو مقالة، ولم يجد واحدنا سببًا للبحث عن قصائد أو قصص أخرى غير المقروءة أوّل مرّة، فإنّ تزييفًا مريعًا للوعي قد استمرَّ إلى سنوات لاحقة، استمرارٌ كان مبرّره الوحيد هو الموقف تجاه الانتفاضة، وكأنَّ الموقف مكرمة من المثقّف وليس واجبًا أو حدًا أدنى.

في السّنوات الأخيرة استطاع واحدنا تبيان فداحة التزييف الذي استطاعت هذه الأسماء تمريرها إلى جيل شاب يبحث عن نصوص أدبية لكتّاب فلسطينيين، لأسباب سياسية. والأسباب السياسية كذلك هي التي أبانت هذا التزييف الذي كانت قد أتت به قبل 15 سنة.

فلسطين التي لا نعرفها غير قضيّة للمظلومين أينما كانوا، هي سوريا الآن، هي سوريا قبل أي شيء

لكن ليس الموقف السياسي هو المقيّم الأدبي بكل الأحوال، لا حينها ولا الآن ولا أبدًا، وإن كان محفّزًا على القراءة لهؤلاء في حينها، وكان محفّزًا سياسيًا ردعته الرّداءة الأدبيّة.

اقرأ/ي أيضًا: ما بعد إسرائيل.. تشريح الذات الصهيونية

الآن، وهذه الأسماء، ولائحة العار الفلسطينية هذه، سأكرّرها كي لا ننساها: خالد أبو خالد ورشاد أبو شاور ومراد السوداني ووليد أبو بكر، وهذه الأسماء لا تكتفي بتقيُّئها شبه اليومي في تأييد النّظام الفاشي في سوريا، بل تذهب إلى دمشق وتزوره، اليوم تحديدًا مع القصف المركّز على حلب، تزوره وتحكي باسم فلسطين، هناك في القصر الحاوي لمجرم الحرب الأبشع في العصر الحديث، من لا يؤتى على مقارنته بغير هتلر وموسوليني.

باسم أي فلسطين يحكي هؤلاء؟ تلك التي تقاتل فاشيًا على أرضها وتؤيّد آخر على أرض جارة؟ فلسطين التي يزور هؤلاء باسمها دمشق المحتلّة غير موجودة في غير رؤوسهم الصّدئة، في غير الوعي الزائف الذي حاولوا ربط فلسطين الفكرةَ به، في غير الكذب في نصوصهم، في غير الأدب الزّائف والرَّديء الذي حاولوا ترويجه باسم فلسطين وتشويه ذاكرتنا به. قد يسامح أحدنا هؤلاء على ربط فكرة فلسطين بأدب رديء لأسباب غير أدبيّة، أمّا ربط فكرة فلسطين بفاشيّة شاميّة فهذا نسف للفكرة من أساسها، هذا ما لن تُسامَح عليه هذه الأسماء الأربعة.

فلسطين التي لا نعرفها غير قضيّة للمظلومين أينما كانوا، هي سوريا الآن، هي سوريا قبل أي شيء، فلسطين هي حلب الآن وحمص من قبل ودوما والرّقة وكل سوريا. وزيارة هؤلاء اليوم ليست أقلّ فداحة من زيارةٍ تكون باسم فلسطين إلى مقر رئاسة الوزراء الإسرائيلي أثناء قصف غزّة.

لن ننسى، كفلسطينيين وسوريين، وكفلسطينيي سوريا، هذه الأسماء الأربعة أبدًا.

اقرأ/ي أيضًا:

مصائر.. رواية بأجوبة مستعملة

مديح لنساء العائلة.. العشيرة تدخل الحداثة