08-فبراير-2021

جدار منزل كافكا في براغ (Getty)

تعثّرَ قلمي بنقطةِ حبرٍ فهويتُ بكلّيتي في جوفها السحيق. وبتّ في سقوطٍ حرٍّ مستمر، بفعل قبضة جاذبية فتّاكةِ الأسر. فكنتُ أهوي في ظلام كافكوي عبثي، لطالما ثرثرتْ عنه ألسنة الأقلام، وها أنا في الأثر! لكنّها أغفلتْ فتنتهُ الدكتاتورية أو دكتاتوريتهُ الفاتنة، برغم ثورته ضد الأنظمة والبيروقراطية فقد كان متورطًا وبشدة.

حروف كافكا ستنافسكَ على إكسير الحياة، وتنتصر عليك لترديكَ خنقًا. إلا عينيك ستستبسل في المقاومة، لتثبت أنّها الأكثر ولهًا

على أيّ حال، فخٌّ ماكرٌ ما أن تهوى فيه ستهواه، إذ كلّ لحظة إغماءة فيه تطوي أجندات العالم شهرًا. وما أن تطرف عينيك، سيسرقك فرانتس من محيطك إلى دهاليزهُ السرية المتباهية بالعتامة. وهناك سيفتح بوجهك صناديقه ليفوح الصدأ، النتانة والعفن، ليريكَ حقيقة الواقع وواقع الحقيقة، ستعتقد أن تلك الصدمة كفيلة بإفاقتك أو.. ربما إعاقتك، لكنّ عقاربَ ساعة كافكا تجري بعكس توقعاتك، فجرعاته التي يسقيك إياها، كجرعات الماء في رئتي الغريق، كلما ابتلعتَ منها أكثر ستسحبك نحو الظلام أكثر فأكثر.

اقرأ/ي أيضًا: غوستاف يانوش في "كافكا قال لي".. تظهير صورة الكاتب الغامض

سيجرّك لأعماق الجحيم، ستلعنهُ بينما يوثقك، ليجلدك بكل ما أوتي من عزلة. ولن يهجع سوطه إلا باعتراف، ذاك اعترافك.. أمّا فحواه فيختلف من هارب لآخر.

كافكا يصدقُ عليه وصف قائد أوركسترا الأوكسجين! إذ ينتصب أمامك مع أناملهُ الرفيعة، لتدور في الهواء بحركاتٍ رشيقة، تبثُّ الحبرَ، ولكأنّ عشراهُ أقلامًا.. ذاك السائل الأسود، الذي تراه يطفو حولكَ، راسمًا فسيفساء محكمة، تمتص جزيئات الأوكسجين. بعدما تدعوهُ لرقصة زومبا مجنونة، تكسِرُ فيها عنق أصرته التساهمية، ليخلفهُ ذريرات مرتعشة، فتلوذُ بهِ أو.. يستغلُ ضعفها.

المحصلة أنَّ حروف كافكا ستنافسكَ على إكسير الحياة، وتنتصر عليك لترديكَ خنقًا. إلا عينيك ستستبسل في المقاومة، لتثبت أنّها الأكثر ولهًا. إذ تبقى مشبوحة على شبحها، هزيلِ البنية، مكتنزِ الخيال. والذي يبادر هامسًا في بؤبؤها بسره: إنّهُ لا وجود للنهاية! فكلّ نهاية بشعة هي بداية جميلة والعكس، وهكذا دواليك الأبدية. ثم يغمض عينيك بأطراف أنامله، التي ستهبط عليك بحنان الغيم، وتتطاير المسودات كحمائم حولك.

فبعد أن يبعثرك كافكا، في مرحلة انتقالية، لا تشبه موتًا أو حياةً بشيء، تمرّ فيها بالتحول. ستغدو كائنًا ممسوسًا ممسوخًا منبوذًا، لا ينتمي إلى أيّ نوع. ثم يقودك إلى مضجعِكَ الأخير، وموت صغير.

ستشرأبُ فيه من المماتِ إلى الولادة، لتعود بزخم أقوى لمعانقة الحياة، والتغزّل بجدائل ضوئها، التي تسطع في دمائك.

بعد أن يبعثرك كافكا ستغدو كائنًا ممسوسًا ممسوخًا منبوذًا، لا ينتمي إلى أيّ نوع

اقرأ/ي أيضًا: فرانز كافكا: هل يساعدنا الأرق على الكتابة؟

هكذا خبرتُ أبجدية كافكا وبصرتهُ شرنقةً فظة التقرن، كيوتكلية المذهب، منكمشة بتجهم. لتحتويكَ في رحمها بتحنن، وتقطر عليك نسغ الإنسانية، بعملية استشفائية. لتنبعث مرة أخرى والى قيامةٍ أخرى، ولكن كجمال محلق بعبثيةِ فراشة وأثرها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفكرة التي صنعت كافكا

كافكا في "الكامبات"