17-مايو-2019

تعرض عشرات آلاف السوريين للتعذيب في سجون الأسد (Getty)

في النص التالي، المترجم عن صحيفة نيويورك تايمز، تروي الصحفية الأمريكية آن بارنارد، تجربة شخصية ومهنية صادمة، في التوثيق للانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري في السنوات الثماني الماضية، خاصة بالنسبة لملف التعذيب داخل السجون، الذي راح ضحيته عشرات آلاف السوريين على الأقل، كما تبين المديرة السابقة لمكتب بيروت في نيويورك تايمز، أهمية الشروع في هذا التوثيق، وجمع شهادات الضحايا، نتيجة السياسات التي يتبعها نظام الأسد للتحايل على الحقائق.


عندما بدأت في تغطية الصراع الداخلي في سوريا عام 2012، حين كنت مديرة مكتب التايمز في بيروت، توارى نظام سجون التعذيب الضخم مترامي الأطراف لنظام الرئيس بشار الأسد في خلفية المشهد. بالطبع نقلنا أنباء اعتقال المتظاهرين وقصص التعذيب. لكنها لم تكن جديدة، بل كانت شيئًا يعرف الجميع أن الحكومة لم تتوقف يومًا عن ممارسته.

وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن رقم السوريين الذين أخفاهم داعش (حوالي 5000) يتقازم أمام عدد المختفين في معتقلات النظام السوري (127 ألف)، حيث يشيع الاعتداء الجنسي كذلك

الجديد كان عنف الدولة الذي طال الجميع بلا تمييز، والمتصاعد على مد البصر، وكذا كان أول هجوم بالمدفعية، وأول غارة جوية، وأول استخدام للأسلحة الكيميائية. ركزنا على جرائم الحرب المرئية للعيان، وتلك التي شاهدناها في السجون أو تحققنا منها سريعًا عبر شهود عيان ومقاطع الفيديو. رأينا جثة طفل رضيع عالق على دراجة ثلاثية العجلات، وبركًا من الدماء في مقصف جامعة دمشق، ويد طفل تمسك حقيبة كتب، لم تعد متصلة بجسده. 

اقرأ/ي أيضًا: "فرع فلسطين" اغتال نيراز سعيد.. استشهاد علني لحارس رسائل اليرموك

في المقابل، كان الاعتقال والتعذيب والإعدام غير ظاهر ومختفيًا في أقبية سرية، لا دليل عليه إلا ما تحفظه عقول الناجين. كثير منهم أعجزتهم الصدمة أو الخوف عن الحديث. لكن مع مرور السنوات وتزايد الاعتقالات، تكشفت الأدلة، كطبقات من أوراق الشجر الميتة تتحول إلى تربة خصبة.

أصبح من الواضح أن نظام السجون توسع توسعًا مهولًا. وبالحديث مع مئات السوريين، لاحظت مع فريقي أن كل شخص تقريبًا، تجمعه صلة ولو طفيفة بنشاطات المعارضة، وكثير ممن لا تجمعهم هذه الصلة كذلك، لديهم قريب أخفته قوات الأمن قسريًا.

وبدأنا في سماع شهادات مفصلة حول التعذيب والإهمال، شهادات فظيعة وسادية تكاد لا تصدق، حتى من قبل الناجين أنفسهم، في بعض الأحيان.

شيئًا فشيئًا، وجدنا أشخاصًا راغبين في إخبارنا بقصصهم كاملة. سمعنا كل التفاصيل العملية الدقيقة لعمليات الاعتقال والضرب وأساليب التعذيب وانتزاع الاعترافات. كانت هناك ساحات كبيرة امتلأت بالمعتقلين، "كما لو أن كل سوريا قد اعتقلت" على حد قول أحد الناجين. بعض هذه الصور تظل تراودني، كصورة السجين الذي حُبس منفردًا مع جثث متحللة لوقت طويل حتى بدأ يتوهم بأن هذه الجثث تتحدث إليه؛ ومعتقلون علقوا من أياديهم بخطاطيف في شاحنة لنقل اللحوم أثناء سفرها بهم على طرق وعرة. وضابط يتوقف في منتصف عملية التعذيب ليتحدث بحميمية إلى طفله الصغير عبر الهاتف المحمول؛ ومراهق يموت ببطء، بفعل الألم والعدوى، بعد أن دهن الحراس جسده بالوقود وأشعلوا فيه النار؛ ومحام أجبر على تناول فضلاته.

كانت رؤية نظام السجون بأنفسنا أمرًا أقرب للمستحيل، فلم تمنح الحكومة سوى تأشيرات سفر محدودة لزيارات محكمة الضبط والتنسيق. لكن في 2013، حصلنا على لمحة جزئية عن حقيقة الوضع من الداخل. فقد اصطحبني رجل أعمال مقرب من الأسد مع فريقي، إلى منشأة أمنية للقاء سجناء يقول عنهم إنهم جهاديون أجانب، ليثبت لنا أن الثورة لم تقم على حركة احتجاجات محلية، بل أشعلها جهاديون إسلاميون متطرفون.

كانت تلك أكثر اللحظات التي وضعت فيها أخلاقيات عملي كصحفية على المحك. اقتيد صف من السجناء محدبي الظهور مقيدين ببعضهم البعض، يعرج بعضهم (ضرب باطن القدم من أساليب التعذيب الشائعة) إلى فناء مقفر كئيب، وأجلسوا واحدًا تلو الآخر أمامي في مكتب. خلفي علقت صورة لرئيس سوريا السابق حافظ الأسد؛ وبجانبي وقف السجانون.

أخبرت أنا وزميلتي كل سجين عُرض علينا، أننا صحفيون مستقلون وأن بإمكانهم إخبارنا أي شيء أو لا شيء على الإطلاق. لكن في الحقيقة لم يكن بإمكانهم التحدث بحرية أو اختيار الرفض.

واتضح أن معظم السجناء سوريون. العديد منهم قدموا لنا شهادات متشابهة وغير قابلة للتصديق قالوا فيها إنهم لم يحملوا أي توجهات سياسية وأن رجال دين ظهروا من العدم وقدموا لهم المال والمخدرات مقابل تنفيذ أعمال عنف عشوائية.

أحدهم لم يلتزم بالنص المطلوب منه. بائع جوز من أحد أحياء الطبقة العاملة، فقد خرج في مظاهرة على حد قوله "لأجل الحرية". وحين سئل ما الذي تعنيه هذه الحرية بالنسبة له؟ قال إنه أراد التصويت في انتخابات ذات معنى. أنا قلق حتى اليوم، على مصيره بعد هذه المقابلة.

غادرنا ونحن نشعر برجفة في أجسادنا. وسخر منا مرافقونا "لشعورنا بالأسف عليهم". ضاعفنا بعدها جهودنا لتغطية القصة، في حين تراكمت البيانات التي جمعتها مجموعات حقوق الإنسان، والتي تحكي عن عشرات من منشآت التعذيب وعشرات الآلاف من المختفين قسريًا وآلاف من المعارضين المدنيين أعدموا بعد محاكمات صورية. هرب أحد المنشقين الذي يحمل الاسم الحركي "القيصر"، ومع صور لآلاف من جثث المعتقلين نحلها الجوع وأدمتها الجروح والكدمات.

لكن في 2014، احتل الجهاديون الأجانب المنتمون لتنظيم الدولة الإسلامية دائرة الضوء. فقد استعبدوا واغتصبوا الأقلية الإيزيدية وأعدموا صحفيين أجانب أمام الكاميرات، وهي أفعال صممت وخصصت للاستهلاك العام، وحسبت بدقة لبث الرعب والخوف.

لكن الأسد انتهج نهجًا مغايرًا، فقد أبقى نظام التعذيب الخاص به خلف الأبواب المغلقة، مصرًا على أنه شيد حكمه على أساس من نظام قضائي عادي ملتزم بالقانون، وأنه يمثل خط الدفاع الأخير والحصن الحصين ضد بربرية تنظيم الدولة الإسلامية. 

لكن وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن رقم السوريين الذين أخفاهم تنظيم الدولة الإسلامية، وفقًا لبثه العلني لمذابحه (حوالي 5000) يتقازم أمام عدد المختفين في معتقلات الحكومة (127 ألف) حيث يشيع الاعتداء الجنسي كذلك. (وكلا الرقمين على الأرجح أقل من الواقع). 

في 2016، أتيحت لي فرصة طرح سؤال حول قضية المعتقلين على الأسد مباشرة، خصوصًا أولئك الذين لم تتم إدانتهم بارتكاب العنف. كرر قوله بأن أي شخص في السجن قد ارتكب جريمة، وأن هناك نظامًا قضائيًا فعالًا يحكم البلاد. ثم سألته عن سجناء معينين اختفوا بكل بساطة بعد اعتقالهم من قبل قوات الأمن، مثل عادل برازي، أخو صديق قديم لي، يسأل أهله السلطات عن مكانه منذ سنوات. توتر الأسد وقال إنهم يكذبون أو عليهم أن يستمروا في السؤال، رغم أن أهالي المعتقلين تعرضوا في بعض الأحيان للاعتقال فقط لسؤالهم عن ذويهم.

قررت أن علينا أن نجمع أدلة أكثر قطعية، لتحريك القضية بعيدًا عن أسلوب الأسد "فلان قال وفلان نفى". وبمرور الوقت، اختفى المزيد والمزيد من المعتقلين، لكن في نفس الوقت أصبح التوثق من صحة قصص الناجين ممكناً أكثر. وتدريجيًا تمكن أشخاص كثر من إخراج عائلاتهم بأكملها من سوريا، وأصبحوا راغبين في تسجيل شهاداتهم بأسمائهم الكاملة. شجعت قصص الناجين من الاغتصاب والتعذيب السادي التي وردت في تحقيقنا، عشرات آخرين ممن تحدثوا علانية أو خفية.

قضيت مع زملائي أسابيع منهكة في تركيا وألمانيا ولبنان، للاستماع لساعات من شهادات الناجين وربطها ببعضها البعض. كان أحد الناجين في مدينة دوسلدورف الألمانية، وكان الخوف والتوتر لا يزالان يملآن عينيه، راغبًا بشدة في إخبارنا قصته ومساعدة الآخرين، إلى درجة أنه ظل يروي لنا التفاصيل حتى تحرك قطارنا من المحطة. 

وقد اكتسبت مهارات جديدة في التغطية الصحفية للناجين من الصدمات عبر زمالة حضرتها في مركز دارت للصحافة والصدمات عن كيفية إجراء مقابلات حساسة دون التضحية بالدقة والمصداقية.

ومع الوقت أصبحت القضية أكثر إلحاحًا بسبب صعود السلطوية وتزايد معدلات الاعتقالات الجماعية على مستوى العالم. ركز الكثير من السوريين الذين يريدون دولة مدنية علمانية، ومن بينهم من خاطروا بحياتهم سابقًا لتوثيق القصف، جهودهم أكثر فأكثر على توثيق الاعتقالات.

لذا بدأت المنظمات السورية والدولية في دمج جهود التوثيق. إحدى هذه المجموعات، وهي مفوضية العدالة الدولية والمساءلة، فحصت ما يقرب من 800 ألف وثيقة للحكومة السورية. من بينها وثائق تعرض أوامر باعتقالات جماعية للمتظاهرين وكذلك نقاشات بين مسؤولي الأجهزة الأمنية حول التعذيب المميت والإهمال داخل النظام، وهي الوثائق التي تمكنت أخيرًا من إقناعهم بعرضها علي.

اقرأ/ي أيضًا: الاعتراف المنقوص بضحايا السجون.. احتفال نظام الأسد على مذبح المجتمع المتجانس

من بين أهم اكتشافاتي في ملفاتهم كانت وثائق تدعم شهادة مريم خليف، التي أخبرتنا أنها تعرضت لاغتصاب ممنهج من قبل رئيس المحققين في منشأة اعتقال. وقد ذكرتها إحدى الوثائق الحكومية بالاسم كمعتقلة. ووثائق أخرى تظهر أن الرجل الذي ذكرت اسمه هو قائد في ذلك المكان بالفعل. وقد أخبر شاهد آخر المفوضية عن تعرضه لنفس المعاملة من قبل نفس الرجل في نفس المنشأة خلال نفس الفترة.

كنت واحدة من صحفيين قلائل تحدثوا مباشرة مع قيصر، عبر سكايب، وعلمت بشأن المزيد من الوثائق التي هربها والتي توثق موت معتقلين عرفت هوياتهم بعد أن تعرف عليهم أهلوهم في الصور.

كان الاعتقال والتعذيب والإعدام في سجون النظام السوري غير ظاهر ومختفيًا في أقبية سرية، لا دليل عليه إلا ما تحفظه عقول الناجين، لذلك كان من الضروري الإصرار على توثيق هذه الانتهاكات

اخترنا أن نورد في تحقيقنا شهادات الناجين التي تعضدها شهادات مماثلة من قبل ناجين من نفس منشآت الاعتقال، وتعززها وثائق بحوزتهم أو وثائق مهربة من الحكومة السورية. وفي النهاية لا تمثل قصصهم هذه إلا قمة جبل الجليد.

وما زال عادل برازي مفقودًا. فيما ماتت أمه مؤخرًا قبل أن تسمع عنه أي خبر.