09-أكتوبر-2018

غلاف المجموعة

في مجموعتها الشعرية الأولى "يخرج مرتجفًا من أعماقه" الصادرة أخيرًا عن منشورات المتوسط، تشبه قصيدة آلاء حسانين، التي تظهرُ للقارئ، منذ الصفحة الأولى وحتّى الأخيرة، ضربًا من الهذيان، ونوعًا من الاعترافات المقصودة أيضًا، نفقًا مظلمًا يعبرهُ القارئ سريعًا، لاهثًا، مقطوع الأنفاس، بحيث يصل إلى الجملة الأخيرة منها مُفرغًا من السكينة، ومُشبعًا بالقلق.

أتت قصيدة آلاء حسانين موزَّعة في شتّى الاتّجاهات، وممزوجة بين رغباتٍ كثيرة، أشدّها وضوحًا الرغبة بالموت والحياة معًا

فالشاعرة المصرية لا تكتفي في مجموعتها هذه بالكتابة من داخل دائرة عوالمها المضطّربة والمأزومة نفسيًا، وإنّما تُحاول أن تستدرج القارئ إليها أيضًا، ليجد نفسه قد وطأ عالمًا قائمًا على اضطِّراباتٍ نفسية شبه مزمنة، وتوتراتٍ حادّة تبلغ أقصاها لحظة الحيرة في اختيار الطريق الأقل سوءًا، ورغباتٍ متناقضة، وأمزجة متقلِّبة، تجتمع معًا في فضاءٍ ملوّنٍ بشتّى أطياف العذاب والوجع، وتدفع القارئ إلى إعادة النظر بعلاقته مع محطيه كاملًا، بدءًا من الحياة، مرورًا بالأصدقاء والعائلة، وانتهاءً بالموت. ولأنّ لا أفق للنجاةِ من هذا الفضاء إلّا بالسير قدمًا لاختبار ما ينتظر الصوت الشّعري الذي يُخاطب القارئ، سوف يلجأ إلى الموت باعتباره بديلًا وحيدًا للحياة وعذاباتِها.

اقرأ/ي أيضًا: المركز العربي يصدر العدد الثالث من كتاب "استشراف" السنوي

هذا اللجوء بدورهِ، لا يأتي من باب تفسير احتجاج الشاعرة الشابّة على واقعها المُعاش فقط، أو سبيلًا للخلاص من هذا الواقع أيضًا، بل يقطع مسافاتٍ أبعد من ذلك، لأنّ حسانين ترى في الموت ما يراهُ المنتحرين فقط، أو أولئك الذين سعوا يومًا نحوهُ: عالمًا سخيًا ورحبًا. ومن خلال قصيدتها، تُحاول بلورة رؤيتها هذه للقارئ، فتصير مهمّة الشعر هنا، وبعفوية شديدة، استعراض ما سوف يمنحهُ الموت للإنسان إن اختارهُ، راغبًا أو مجبرًا. وتختزل الشاعرة ما يمنحهُ الموت/ الانتحار بالخروج عن الطبيعة، والتحرر من الواقع، وممارسة ما كان ممارستهُ أمرًا مُستحيلًا في الحياة، بمعنى تفعيل الخيال وتحويله إلى شيء مادّي بقصد التعويض فقط. نقرأ: "سأجيءُ عندَ حُلولِ المساء/ بعدما يتحلَّلُ هذا الجسد/ في القبرِ الرخاميِّ.../ سأصيرُ فضاءً أزرقًا/ وأطفو فوق المنازل/ سأصيرُ رياحًا/ أو صبيًّا يعدو/ بين الأحراش/ بحثًا عن الشمس". 

هذه الرغبات لن تتحقَّق إلّا بحدوث الموت الذي ينتبه الصوت الشّعري في المجموعة من خلال إلى وجوده، ويعتقد جازمًا بأنّه سوف يمنحهُ ما فشل دومًا في امتلاكه، أي صوتًا خاصًّا به، يكون قادرًا على طرح الأسئلة، أو أقلّ ما في الأمر، الحديث بطلاقة دون ارتجاف. وهذا ما ستفعله حسانين بقولها: "سأجيءُ لأسألَ الأصدقاء/ عن ليالي الوحدةِ الطويلة/ وعن المعاصم/ التي ربَّت الانتحارات/ والقصائد الحزينة.../ سأجيء/ لأسألَ الأصدقاء/ كيف لم يلمحوا/ خلف ابتساماتنا/ عذاباتٍ كثيرة؟!".

قصائد كهذه، يتَّضح أنّ شغلها الشاغل هو إظهار الموت بصورة فانوسٍ سحريّ يملك القدرة على تحقيق رغبات من يصل إليه؛ ليست في الحقيقة سوى محاولة لتبرير الموت وتجميله، بحيث لا يصير الذهاب نحوهُ إثمًا أو خطًا إطلاقًا. ولا يُعتبر من اختارهُ مريضًا أو معتلًّا نفسيًا. ولكنّ الموت بدورهِ لا يظهر بهذه الصورة فجأة، أي دون عوامل تشتغلُ على تكوينها شيئًا فشيئًا لتصل إلى شكلها النهائي. فهذه الصورة تأتي كنتيجة طبيعية لما يلمسهُ القارئ في قصائد المجموعة، من طفولة مغتصبة ومقموعة لا يبدو أنّها حدثت من الأساس. بالإضافة إلى الإهمال والإغفال اللذان كوّنت الشاعرة من خلالهما نصًّا كـ: "بينما كانَ العالمُ/ يجمعُ صبيتهُ، ويمنحهم آباء/ وبينما كانت الشاحناتُ/ تُحمِّلُ الأطفال في صناديقها/ لتُوزِّعهم على المنازل/.../ كنتُ أكبرُ وحدي/ هكذا، كظلٍّ/ يتمدّدُ على جدار". ونصًّا آخر يقول: "وعندما كنتُ صغيرًا/ كنتُ يراعًا/ ومجدافًا خشبيًا/ وكنت ظلال الحزن/ في بيتنا القديم". ناهيك عن الوحدة التي تختزلها حسانين عندما تقول: "إنّني لستُ شخصًا وحيدًا/ أنا الشخص الوحيد/ في هذا العالم/ والناس كلّهم/ محض أشياء أتخيلها/ وحين أعلّق نفسي/ في مروحة/ سينتهي العالم/ ولذلك، يُقيدونني في سرير/ ويطلبون منّي أن أظلّ حيًّا".

اقرأ/ي أيضًا: "مدينة على المتوسط": أنثروبولوجيا طرابلس.. أدب خالد زيادة

هذه القصائد، بما تحملهُ من معانٍ وإشارات، من شأنها أن تنسف التأويلات السابقة عند القارئ، وتضعهُ إزاء أخرى جديدة تُصبح فيها قصيدة آلاء حسانين موزَّعة في شتّى الاتّجاهات، وممزوجة بين رغباتٍ كثيرة، أشدّها وضوحًا الرغبة بالموت والحياة معًا. بالإضافة إلى تبريره، أي الموت، وتفسيره من جهة. والإشارة، بصورة صريحة أو مواربة، إلى الأشياء التي أفسدت علاقتها مع الحياة ومسائلتها من جهةٍ أخرى. وإلى جوار هذا كلّه، تبدو قصيدة آلاء حسانين في بعض الأحيان معنيةً ببلورة أجزاء الذات المنكسرة، المتشظية، والمشتَّتة بفعل الاضطِّرابات النفسية، والتقلّبات المزاجية، والخسارات المادّية التي تمثّلت داخل المجموعة بخسارة عددٍ من الأصدقاء. لذا، من غير الممكن قراءة قصائد هذه الشاعرة، التي اتّخذت من الوجع والخوف طريقًا للوصول إلى الشّعر، بمعزلٍ عن حياتها الشخصية والبيئة المحيطة بها إطلاقًا. هكذا، سنقرأ: "جسدي/ يصيرُ تابوتًا/ وأنا، طفلٌ صغير/ يشعرُ بالوحدة/ في الداخل/ أغمضُ عينيّ، أفتح عينيّ/ وجوهٌ كثيرة تحوم حول رأسي/ أمي تنتحب في الزاوية/ وبناتٌ صغيرات يرمين ورودًا بيضاء/ على جسدي/ كما لو أن في الأمر/ مزحة ما/ يشبه هذا اليوم/ يوم جنازتي". وفي قصيدة أخرى تقول: "يقول الليل أيضًا عن النجوم: ليست حشراتٍ مضيئة/ بل دمع أولئك الذين انتحروا في صباهم. / فكّرتُ في صباي أن أُصبح نجمة". 

تكتب آلاء حسانين في "يخرج مرتجفًا من أعماقه" قصيدة متّصلة بشكلٍ مُطلق بحياتها الشخصية وبيئتها وعوالمها المتعدّدة، واقعيةً كانت أو محض خيال. وبالتالي، هي قصيدة تتحوّل شيئًا فشيئًا إلى ما يشبه السيرة الذاتية، أي سيرتها المضطّربة التي تدوّنها بعيدًا عن التهويل، وبنباهة لا نفاذ لها أيضًا. وتختزل حسانين هذه العلاقة بين الاضطّرابات النفسية والشّعر حينما تقول: "أن تكون شاعرًا؟ إنّه أمرٌ تتحدثُ عنه/ بالطريقة ذاتها/ التي تستخدمها لوصف اضطرابك/ وفزعك من خطوط يديك/ والخجل الذي يُصاحب صوتك/ حين تُعدِّدُ مرّات انتحارك/ وتشكو لحشد لا تعرفه/ من ذاتك الأخرى/ التي تحاول أن تقتلك".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عزمي بشارة "في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟".. راهن المفهوم وسياقه التاريخي

"الديوان الإسبرطي".. أسئلة واحدة أزمنة مختلفة