02-يناير-2022

من رسومات الكتاب

قصة "آكل الحزن"، كتبتها الشاعرة الفرنسية روكسان ماري غاليه، ورسمت لوحاتها الفنانة الفرنسية ساندرين لوم. صدرت القصة عن "دار فيليب أوزو" في عام 2009، ثم ترجمتها "دار الأصابع الذكية" إلى اللغة العربية وأصدرتها في عام 2010.

تركز القصة على شعور الطفل في خضم حربه ضد الحزن، وكيف وقع في دائرة مفرغة ولم يستطع التخلص منها

يقع الكتاب في 30 صفحة، ويتناول قصة طفل كان يحس أنه بخير قبل أن يفاجئه الحزن. حينها، بدأ الطفل بقضم الحزن وظل يأكله حتى ظنّ أنه اختفى، لكنه لم يشعر، مع ذلك، بأنه عاد كما كان. حينها، ظهرت في حياته طفلة صديقة، فوقع في الحب ووجد السعادة.

اقرأ/ي أيضًا: "طفولة حزيران".. مطاردة سوسيولوجية للهزيمة في أدب الطفل العربي

يشكّل الطفل الشخصية المركزية في القصة، ولا توجد إشارات لأي اسم له، أو حتى وصف أو مميزات من أي نوع. وترد في نهاية القصة شخصية أخرى هي الطفلة، ومن الممكن أيضًا اعتبار الحزن الذي يهجم على الطفل، فجأة، شخصية رئيسية بالنظر لطبيعة الحوار الذي دار في نفس الطفل، وطريقته في التعامل معه. ولا يوجد في الحكاية إشارة لمكان ولا زمان بعينهما، مما يفتح الباب على مصراعيه لإمكانية حدوثها في أي مكان في العالم، ولأي طفل.

يتمحور الكتاب حول طفل يعيش بسعادة ويحس أنه بخير. ويركز، بالدرجة الأولى، على كيفية تعامله مع الحزن الذي ألمّ به فجأة، حيث تتناول القصة طريقة فهم الطفل للأمر، والأدوات التي اعتمد عليها في تفكيكه وتحليل ما يحدث معه، أي شعوره بالحزن.

كما تركز القصة على بعض الصفات المهمة والفارقة بالنسبة للطفل في تشكيل ردة فعله تجاه أي شيء، تحديدًا صفة الحجم الذي تجسّد في خوف الطفل من فكرة أن الحزن يفوقه حجمًا. ثم ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى الحديث عن الأداة التي فكّر بها الطفل للتعامل مع الحزن، وهي القضم للخروج منه، بالإضافة إلى شرح كيف انتهى به الأمر لأن يبتلعه.

وتركز القصة على شعور الطفل في خضم حربه ضد الحزن، وكيف وقع في دائرة مفرغة ولم يستطع التخلص منها، مرورًا بحالة الإنكار التي ولدت لديه، وإصراره على أنه أصبح مستعدًا لمواجهة الحزن، وصولًا للخلاص من هذه الحالة من خلال عامل خارجي هو الطفلة التي ظهرت في النهاية، وساعدته على التغلب على الحزن والعثور على السعادة.

لا يوجد في الحكاية إشارة لمكان ولا زمان بعينهما، مما يفتح الباب على مصراعيه لإمكانية حدوثها في أي مكان في العالم، ولأي طفل

يُعتبر اجتياح الحزن الكبير للطفل الصغير، والتهامه له، الحدث المركزي في القصة، والمحطة التي تفصل بين الطفل الذي: "كان سعيدًا، كان بخير"، والطفل الذي: "لم أعد سعيدًا كسابق عهدي، أصبحت مختلفًا"، ومن هذا الحدث بدأ الطفل يفكّر في معنى الحزن، وماهيته، وتأثيره عليه، ويطوِّ أدواته الخاصة للتغلّب عليه والتحرر منه.

اقرأ/ي أيضًا: أدب الأطفال.. الأسئلة والسياق

شكّل هذا الحدث التجربة التي وضعت الطفل أمام مرحلتين مختلفتين تمامًا في حياته، ومن خلالها تعرّفه على ذاته، وسبر أعماقه للمرة الأولى، وصولًا لما يعنيه هذا الشعور "الحزن" ونقيضه "السعادة" في نهاية القصة. ولو لم يحضر الحزن الكبير إلى حياة الطفل، لبقي كما هو، كما وصف نفسه قبل مجيء الحزن: "سعيدًا، وبخير".

يتناول الكتاب الحزن كثيمة في حياة الأطفال وطريقتهم في تعريفه والتعامل معه. ينطلق الطفل من فكرة "الحجم" كرديف للقوة التي تشكّل مبعث القلق بالنسبة له إذا كان مصدرها خصمه، وهو في القصة "الحزن": "وجاء الحزن، حزن كبير، وأنا صغير"، بينما تشكّل مصدرًا للأمان حين تكون سمة مقرونة به كما حدث في القسم الثاني من القصة: "أمسيت أكبر من الحزن، يمكنه أن يعود، فأنا لم أعد خائفًا من شيء".

ثمة تجليات في عدد غير قليل من كتب الأطفال حول فكرة الحجم وارتباطها بالقوة والخصائص الخارقة في أذهان الأطفال. قصة "المارد" لنهلة غندور مثالًا، وهي قصة من أدب الأطفال الفلسطيني الحديث، تعالج خوف طفلة من الذهاب إلى المدرسة في اليوم الأول، لأن كل ما تراه يبدو كبير الحجم بالنسبة لها، مخيف مرعب، حتى أنها تظنه ماردًا. بالإضافة إلى قصص أخرى مثل "ملك الحكايات" لسونيا نمر، و"دانتيلا" لمنى كمال، وغيرها من القصص الفلسطينية التي تحضر فيها فكرة الحجم كعامل مرتبط بالقوة في أذهان الأطفال.

تتناول قصص وحكايات عديدة من الموروث الإنساني العالمي هذه الفكرة، مثل قصة "أليس في بلاد العجائب"، و"بيضة الشمس"، وقصص شون تان المختلفة، وغيرها الكثير. في كل هذه القصص، ينظر الأطفال للمخلوقات كبيرة الحجم ومنها للعالم الكبير من حولهم، بخوف وقلق، حيث يشعرهم حجمهم الصغير بقلة حيلتهم بسبب عدم قدرتهم على التعامل معها.

ينطلق الطفل في معركته مع الحزن باستخدام أدواته التي يعرفها ويألفها، حيث يركّز الكتاب على توظيف الحواس في إدراك الحزن أو السعادة والتعامل معها، كالالتهام، التذوق، السمع: "التهمني، أقضمه، أكلته، شربتها، سمعتك، تذوقتها".

وبعد أن عرّف الطفل الحزن في ذهنه بوصفه هذا المخلوق كبير الحجم الذي التهمه، بدأ يوظّف أدواته في الدفاع عن نفسه: "أقضمه، لأخرج منه، أكلته، أكلته.. أكلته". لكن الطفل علق في دائرة الحزن، فبعد أن كان ينوي الخروج منه فقط عبر التهامه، وجد نفسه مستمرًا في فعل ذلك دون القدرة على التوقف: "تابعت تابعت، تابعت".

ظن الطفل في البداية أنه تغلب على الحزن، لكنه أدرك أن الحزن استقر فيه: "لكنه ترك شيئًا ما في أعماقي". في هذه المرحلة، يصر الطفل على أنه أقوى من الحزن، وأن الأخير لن يسحقه كما في المرة الماضية، لكنه عندما ينظر إلى نفسه في المرآة، لا يرى الطفل نفسه الذي كان عليه قبل حضور الحزن، وفي ذلك إشارة لحالة التشرذم التي يعيشها الطفل بين إصراره على أنه انتصر على الحزن وهزيمته، وبين شعوره الحقيقي بالثقل والأسى والضياع.

ولم يختفي هذا الشعور إلا بظهور الطفلة ذات الضحكة العذبة. لقد شكّلت هذه الطفلة حبل النجاة الذي تعلّق به الطفل وخرج عبره من حزنه. يمثّل حضور الطفلة وما بثّته من سعادة في حياة الطفل محطة جديدة في حياته، إذ شكّلت حافزًا له لإعادة تعريف ما هو محيط به، سواءً أكان مفهوم القوة أو الأدوات المرتبطة بها.

ونلاحظ في نهاية القصة أن الطفل استغنى عن الدرع الثقيل، وأنه يريد أن يستخدم ضحكات سعيدة لجعله يطير. كما أنه كسر العلاقة النمطية بين القوة والثقل، فاعتبر الفرح أقوى وأرسخ من الحزن وأكثر قدرة على طرده:" لم أعد بحاجة درع ثقيل. إذا عاد الحزن، سأطلق عليه ضحكات سعيدة ليطير. الحزن خفيف جدًا أمام ثقل الفرح".

المحتوى البصري لتكثيف المعنى

تشكّل اللغة مدخلًا أساسيًا لفهم النص والتأكيد على الثيمات الرئيسية التي يعالجها، حيث يلاحَظ أن الإخراج الفني البصري للعمل يركّز على كلمات تعتبر مفتاحية في مسار القصة، لا سيما أنها قُدِّمت بخط كبير مقارنةً بالكلمات الأخرى في النص: "(كنت بخير) قبل الحزن"، "(كبير، كبير) حين حضر الحزن"، "(أكلته) لمحاربة الحزن"، "(تابعت، مختلفًا، أكبر، يسحقني، أجهل) حيث علق بدائرة الحزن"، "(أنا سعيد، الآن) بعد لقاء الطفلة كما قامت الرسامة بتوظيف اللونين الأسود والرمادي والخطوط الدائرية والعشوائية لتجسيد الحزن، وأدخلت اللون المائل للزهري في نهاية العمل للإشارة إلى أثر حضور الطفلة.

السوداوية كثيمة في أدب الطفل

يُعتبر تناول ثيمة سلبية كالحزن محط جدل واسع عندما يتعلق الأمر بالقصص التي يتم تقديمها للأطفال، فعادةً ما تركز قصص الأطفال، خصوصًا في الأعمال الكلاسيكية، على تناول مواضيع أقل صدامية. وحتى عندما يتم توظيف المخلوقات الخارقة ذات القدرات العجيبة أو الشخصيات غير المألوفة، كالجنيات والأقزام والحيوانات الناطقة والأشجار وغيرها، فإنها تركز على دورها في القصة وأحداثها. إلا أن التوجهات المعاصرة في النتاج الأدبي والثقافي الموجه للأطفال، تركز على تناول المشاعر التي يختبرها الطفل، خصوصًا تلك السلبية كالحزن والإحباط والغضب، وتفكيكها وتحليلها والدخول لعالم الطفل الذاتي وملامسة تجليات هذه المشاعر فيه من خلال الطريقة التي ينظر بها إلى ذاته وللعالم. ولعل قصة "الشجرة الحمراء" لشون تان، و"ليلي الحمقاء" لميتا فيذسو، و"أميرة" لزكريا محمد، و"لهذا ريان يمشي هكذا" ليحيى عاشور من الأمثلة التي يحفل بها عالم أدب الأطفال المعاصر على هذا التوجه.

تقول الشاعرة والفنانة الإيرلندية صوفي ميهان في مقالة لها تناولت فيها عددًا من الكتب التي تقدّم محتوى "سوداوي" للأطفال بعنوان: "المعرفة المبكّرة، ثيمات سوداوية في كتب الأطفال": "تساعدنا قراءة كتب الأطفال، نحن الكبار، على العودة لطفولتنا ومعالجة المشاعر المركبة" وتقول في نفس المقالة: "غالبًا، تساعد الرسومات في قصص الأطفال على ردم الهوة التي لا تفلح الكلمات دائمًا في التعبير عنها".

يُعتبر تناول ثيمة سلبية كالحزن محط جدل واسع عندما يتعلق الأمر بالقصص التي يتم تقديمها للأطفال

وفي مقالة لها في مجلة الجارديان بعنوان: "عن أي سوداوية نتحدث في أدب الطفل؟" تجيب الروائية ربيكا ويستكوت عن هذا التساؤل الذي قد يطرأ دومًا على بال الكبار عندما تعترضهم كتب مثل "آكل الحزن"، وثيمة الحزن التي يتناولها بوضوح ويقدّمها للأطفال، حيث تقول: "الأطفال محاطون بالكبار، وبالتالي فهم عرضة لمشاكل الكبار، إنهم يستيقظون يوميًا في بيوت تحفل بالمشاكل والتحديات. الحياة بكل تجلياتها تحدث أمامهم، وهم جزء منها." وتضيف الكاتبة: "يعيش أطفال القرن الواحد والعشرين في مجتمع سريع التغير، لذا فمن المهم أن يتعرضوا لأعمال كهذه، ليتمكنوا من التعامل مع العالم من حولهم".

اقرأ/ي أيضًا: صورة العربي في أدب الأطفال الإسرائيلي

إن تقديم أدب أطفال نوعي يعني التعامل مع الطفل بما يليق بخياله وإبداعه، ويعني بالضرورة التعامل معه كإنسان واع وذكي، ومن غير الممكن أن يتأتى ذلك بتقديم محاور سطحية أو ساذجة تبدو كقشور خارجية بالنسبة له، كما من غير الممكن الادعاء أن القصص التي كانت مناسبة للأطفال قبل مئة عام تستجيب لأطفال القرن الحادي والعشرين بكل ما في حياتهم من تعقيدات وتداخلات.

ولعل واحدة من مهمات الأدب العديدة هي الحفر عميقًا في دواخل الذات الإنسانية وصولًا لمنابع الشعور، وتفكيكه والبناء عليه. وقد قامت الكاتبة في هذا العمل "آكل الحزن" بذلك تمامًا، حيث تحفر عميقًا في ذات القارىء وصولًا إلى شعور الحزن النيء كما هو، مما يقدم له الفرصة لفهم ذاته، والبدء في معالجة هذا الشعور والبناء على تجربته.

لقد وظفت الكاتبة في هذا العمل الحزن كعامل لإعادة تعريف السعادة، ففي معركته ضد الحزن، ومن خلال الأدوات التي وظفها للتغلب عليه، وفشله ونهوضه ووقوعه في الحب، يعيد الطفل تعريف القوة ثم السعادة، وينطلق منها لإعادة تعريف ذاته: "أنا الشخص الذي يحبك عندما تضحكين".

يمكن القول إن الطفل لو لم يختبر تجربة الحزن، ولو لم يفشل في التغلب عليه بمفاهيمه وأدواته التقليدية، وتعريفه السابق للقوة المتمثلة بالحجم والثقل، لما أتيحت له الفرصة لالتقاط السعادة، وللتعرف على ذاته الجديدة، ولظل يظن أنه سعيد وبخير.

يشكل الطفل الشخصية المركزية في القصة، ولا توجد إشارات لأي اسم له، أو حتى وصف أو مميزات من أي نوع

 ويشار هنا إلى أن الكيفية التي قدّمت بها الرسامة الطفل في بداية القصة ونهايتها تعزز هذه الفكرة، حيث ظهر الطفل، بعد أن تعرف على الطفلة وهزم الحزن، بشكلٍ يختلف عن ذلك الذي كان عليه في بداية القصة، قبل أن يحضر الحزن.

اقرأ/ي أيضًا: صور الأب كاتبًا

ومن هنا يمكن النظر إلى هذا الكتاب كعمل فلسفي موجه للأطفال، فهو يقدّم لهم مفهوم التجربة، ودورها في إعادة التعريف، وفي ذلك تناقض مباشر مع كثير من القيم والتوجهات التربوية الكلاسيكية التي نادت بحماية الأطفال من التجارب في العالم الحقيقي من حولهم، لدرجة وصلت أحيانًا إلى تشييد سور وهمي يعزل الأطفال عن عالمهم الكبير. أكثر من ذلك، يمكن القول إن كتاب "آكل الحزن" يمثّل قصيدة فلسفية إبداعية موجهة للأطفال وللكبار في هذا العالم.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

كلمات العام 2021 من معجم أكسفورد.. تكشيف لغوي عابر للّغات

قصص غي دو موباسان.. لاحظ جيدًا قبل أن تكتب