03-أبريل-2017

عبد الحليم حافظ (فيسبوك)

جثة عبد الحليم حافظ لا تريد أن تهدأ، فكلما طال غيابه زاد حضوره. كعادة كل ذكرى لوفاته، تحمل جديدًا يزيد الجدل حوله. في آذار/مارس 2017 وفي الذكرى الأربعين لرحيل عبد الحليم حافظ، كان بطل القصة الأديب فتحي غانم، رئيس تحرير الجمهورية في ذلك الوقت. ارتاح عبد الحليم هذه المرة من حكايات مفيد فوزي حول علاقته بسعاد حسني، التي وصلت إلى ساحات المحاكم، ونميمة الصحف والمجلات حول علاقاته العاطفية، وغراميّاته مع المتزوجات، لحساب حكاية أكبر.

جثة عبد الحليم حافظ لا تريد أن تهدأ، فكلما طال غيابه زاد حضوره

رحل عبد الحليم حافظ بعد أيام من وصول خطاب كتبه خلال تلقيه العلاج بمستشفى في لندن، فكانت المفاجأة صادمة وقاسية على الجميع إلا فتحي غانم، الذي وضع يده على معركة طاحنة وجد عبد الحليم حافظ نفسه أحد أبطالها في نهاية حياته، وهي معركته مع الموت، والتي انشغل بها أكثر من المَغنَى والطرب، فقد كان عبد الحليم حافظ يرفض النوم في الليل، خوفًا من أن يغافله عزرائيل ويقبض روحه، وينام بالنهار حتى يلحق به من حوله.

اقرأ/ي أيضًا: أربعة عقود على رحيل العندليب

في النهاية، وعلى سرير المرض الأخير، وصل عبد الحليم حافظ إلى قراره الأخير، كما اختتم الخطاب: "قررت أن أكون عاقلًا". أمَّا لماذا فتحي غانم؟، فهذه قصة أخرى.

يروي صاحب رائعة "رجل فقد ظله" أنه حين رأى عبد الحليم حافظ لأول مرة لم يلتفت إليه: "تجاهلت ذلك الشاب الأسمر النحيف، شاحب الوجه، الذي رأيته في حجرة مكتب محمد عبد الوهاب، كنت مشغولًا بالحديث مع الموسيقار الكبير، وأعجب لهذا البناء القديم المتداعي والمكتب الخشبي القديم، الذي يجلس إليه الفنان الكبير. وظننت أن عبد الحليم حافظ طالب حاجة، ولم أصافحه لدى خروجي، فلما وصلنا، أنا وصديق كان معي، سمعت هذا الصديق يقول لي في لهجة عابرة إن هذا الشاب الذي كان مع عبد الوهاب تلميذ جديد يقولون إنه سيكون له مستقبل".

هكذا رأى غانم العندليب الأسمر لأول مرة، وتقاربت العلاقة إلى الحد الذي سمح له بأن يكتب: "أصبحنا صديقين، ولا أدري كيف أصبحنا صديقين، ولكننا كنا نتقابل كل يوم تقريبًا، واكتسبت صداقة كمال الطويل ومجدي العمروسي، وشهدت معهما مولد أغانٍ كثيرة، وكان لا بد أن أعرف في نفس الوقت الدكتور زكي سويدان الذي أصبح مشرفًا على علاج عبد الحليم حافظ".

كان كل شيء عاصفًا من حول عبد الحليم حافظ؛ الشائعات والهجوم والمرض، حتى استقرّ به الأمر مكوَّمًا في مستشفى بلندن. لم يقدِّر أحدهم أوجاعه، فقرر هو أن يريح الجميع، واستسلم للموت.

ويعترف عبد الحليم حافظ، خلال الخطاب، بأن مأساة حياته، التي صاحبته إلى آخر لحظة، هي أنه يسير في طريقه، وحده، منطويًا، يسجن داخلها كل حنينه إلى أمه، التي ماتت بعد ولادته، وأبيه الذي مات بعدها. ويقول إنَّه وصل، فيما بدا شيئًا من الحكمة، إلى أنه لا بد أن يكون عاقلًا في خطواته مع الحياة، مؤكدًا: "وقد قررت أن أكون عاقلًا".

كشف عبد الحليم حافظ، خلال الخطاب، تفاصيل حالة الوحدة، التي اعتبرها قَضت عليه، رغم أن كل من حوله كانوا تحت خدمته ورهن إشارته، إلَّا أنه ظلّ يبحث عن وَنَس إلى آخر لحظة.. فما الذي جرى؟ الإجابة تستدعي قراءة الخطاب الأخير. 

في خطابه الأخير، يكتب عبد الحليم حافظ عن الوحدة التي سيطرت على حياته

يقول: "أخي الحبيب، كل الشوق، وكل الحب، أبعثهما لك وأنا جالس وحدي في حجرتي في المستشفى بلندن. الشعور بالوحدة ينتابني رغم أني أتلقى في اليوم ما لا يقل عن 200 خطاب وحوالي 200 برقية، وكلها دعوات من قلوب طيبة لا تعرف إلا الصدق، ومحادثات تليفونية من كل البلاد العربية. ورغم كل الحب الذي غمرني به إخواني الفنانون، وأصدقائي وأهلي قبل سفري، فقد كنت أحس أحيانًا أني وحيد، وحاولت بكل جهدي أن أجد تعليلًا لذلك فلم أستطع، وأخيرًا وبعد تفكير طويل تأملت فوجدت أن الوحدة في نفسي أنا، وعرفت أن الإنسان يستطيع أن يخلق بنفسه أشياء لا مظهر لها في حياته أبدًا".

اقرأ/ي أيضًا: 9 تشكيليين رسموا الست.. تلوين صوت الزمن

يتعمّق عبد الحليم حافظ، قليلًا، في إحساس الوحدة ويقول: "كل يوم عندي أصدقاء هنا في حجرتي، وأصدقاء من التلغرافات والحكايات والتليفونات وهناك أهلي وزملائي وكل الناس. فمظهر الوحدة أو الوحدة نفسها غير موجودة في حياتي، وتأملت أيامي كلها من يوم ولدت إلى يومي هذا، فأحسست بوحدة كبيرة تعيش في أيامي الأولى، فقد كنت دائمًا وحيدًا رغم حب إخوتي لي حبًا صادقًا وإظهارهم هذا الحب بكل معنى، وتدليلهم لي، وعطفهم عليّ، كل ما أطلبه كان تحت يدي في الحال".

ويضيف عبد الحليم حافظ: "رغم هذا كنت أحس أني بعيد جدًا.. أسير في طريقي وحدي منطويًا على نفسي، أسجن داخلها كل حناني إلى أمي التي ماتت يوم ولادتي، وأبي الذي مات بعدها".

وصل عبد الحليم حافظ، في نهاية حياته، إلى أن يقول "هذه هي وحدتي كما استطعت أن أحددها من بين معالم أيامي وأنا صغير، وأعتقد أنها هي التي كانت تجعلني أحس أحيانًا أنني وحيد، والإنسان إذا حاول أن يفكر تفكيرًا سليمًا، وأن يبحث في الأعماق البعيدة من نفسه عن الشيء الذي يحسه يجد أن شعاعًا مضيئًا من فكره وعقله وروحه ينير له الطريق إلى هذه النفس، ويرى الحقيقة من خلال هذا الشعاع المضيء من التفكير السليم". 

لكن عبد الحليم حافظ قد تراجع، في ختام الخطاب، عن كل تصورّاته، لكن القدر لم يسعفه لتحقيق تصوراته الجديدة، فقد عاجله بالموت؛ القطار السريع الذي لا نغادره، لكنه يغادرنا ويمرّ. هذا بالضبط ما فعله مع عبد الحليم حافظ، ووصفه في الخطاب بقوله: "لقد عرفت أني لم أكن وحيدًا أبدًا، دائما حولي أهلي أحبهم ويحبونني، ودائمًا حولي وحول فني كل الناس، وأنا أحبهم وأعمل من أجلهم، لا بد أن أكون عاقلًا في خطواتي في الحياة، وقد قررت أن أكون عاقلًا". 

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمد فوزي..أيقونة البهجة وصريع ثورة يوليو

يا ليل.. يا عين: شرقٌ روتْهُ النساء