16-فبراير-2017

سفيتلانا أليكسيفيتش

في "آخر الشهود" (دار ممدوح عدوان، 2016) تجمع الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش أصواتًا لمجموعة شهود يروون حكايتهم وبعضًا مما يتذكرون، هذا الطفل الذي كبر الآن، يروي شذرات من ذاكرته التي تتقد مع صفحات الكتاب. 

"آخر الشهود" أقرب إلى الرواية المونولوجية، أو الرواية متعددة الأصوات

الكتاب أقرب إلى الرواية المونولوجية، أو الرواية متعددة الأصوات، التي قامت ألكسيفيتش باعتمادها وتوظيفها في مجموعة رواياتها الوثائقية، القائمة على البوح والاستحضار والتذكر، ومجموعة من العمليات الذهنية وضعت فيها شخوصها ضمن ذلك الظرف من السرد. في عالم هذه الروايات تعدد الأصوات الساردة، أو الأصوات القاصة إن صح التعبير، لا يعد ذلك شكلًا بنائيًا فقط، بل ضرورة تشكلت عليها بنية سردية، تدخل فيها عوالم الشخصيات وتسرد وقائع وأحداث مأزومة خلال فترات حياتها. الكاتبة التي لم تكن ذات صيت كبير في العالم العربي، قبل حصولها على جائزة نوبل للآداب عام 2015، باتت ترجمة أعمالها إلى العربية ضرورة من بعده، ولكن هناك ما هو أكبر من الحصول على الجائزة، يجعل ترجمتها وقراءتها على قدر كبير من الضرورة والأهمية.

اقرأ/ي أيضًا: سفيتلانا أليكسييفيتش: ليس للحرب وجه أنثوي

تقوم روايات الكاتبة، أو كتبها الوثائقية كما يحلو للبعض تسميتها، على أحداث غاية في الأهمية والدقة من التاريخ، لتقف عند مفارق تاريخية من عمر بيلاروسيا أو روسيا البيضاء، هذا البلد الذي لم يكبر اسمه كثيرًا رغم مآسيه، ولم يتناقل أخباره العالم على غرار جيرانه من بلدان أوروبا الشرقية. تشعر وكأن بريق الاسم انطفأ منذ التسعينيات وحتى اليوم، مما يجعل أصوات أليكسييفيتش وموقفها الأدبي والإبداعي من الأحداث جديرًا بالتأمل. 

في "آخر الشهود" (ترجمة عبدالله حبه)، تقف الكاتبة عند شهادات لأشخاصٍ مرت عليهم أيام الحرب وهم صغار السن، محاولةً أن تعود بهم للحظات الأولى لقيام الحرب، والأيام الأولى من اندلاعها. يتذكر الصغار/الكبار. وهذه المفارقة الكامنة في الشهادات ما يجعل منها أكثر إشكالية وأكثر تأثيرًا، تكتب أليكسييفيتش عنوانًا للشهادة أو الحكاية، ويمكن أيضًا أن نطلق عليها اسم ذكرى، معنونةً حكايات الشخوص بأكثر التفاصيل الغامقة والمؤثرة، إلى جانب المهنة التي يمارسها هذا الشاهد/الراوي لحظة الحاضر هذه، أيّ لحظة تذكره لما يقوله، فرضيةً ما تربط بين لحظات الحرب الأولى التي يتذكرونها وماهم عليه اليوم. 

على طول امتداد زمني عميق للوراء، باتجاه الأيام الأولى للحرب العالمية الثانية، زحف النازيُّ باتجاه الشرق أكثر، إلى هذا البلد الزراعي، وفي تلك الليالي الصيفية بدأت العطل المدرسية، هؤلاء الأطفال الذين كانت الأرض يومها مجالًا رحبًا لهم، باتت حينها أضيق من أمتار قليلة يهربون فيها وحدهم، أو مع من تبقى من ذويهم. 

فقدان الأبوين، مغادرة البيت تذكر المدرسة، الرحلة المضنية إلى جانب حوادث العنف والقتل، الكثير منهم لم يخرج من البيت بل جاءت الحرب كلها إليهم. يجمع خيطَ الذكريات ذلك حكاياتٌ غير مكتملة بتفاصيل دقيقة، يغلب على معظمها الفقدان، كارتباط كثيف بين مفردة الحرب والتعبير عن الفقدان، وبعيدًا عن أيّ مبالغة، يبدو وقع الكلمة، أي الفقدان، كبيرًا، لاعتبارها عتبة إقلاع أو كلمة سرّ يفتح معها صندوق الكوارث. 

الأدب الوثائقي ليس إلاّ شكلًا من أشكال الأدب الأكثر التصاقًا بوقائع تحرضك على الأسئلة

هذا ما يبدو في كتابها "صلاة تشرنوبل" (ترجمة ثائر زين الدين وفريد حاتم الشحف، دار طوى في عام 2016). حيث تروي كارثة المفاعل النووي المنفجر على الحدود الأوكرانية البيلاروسية، والذي لا يمثل لبيلاروسيا الصغيرة إلاّ فاجعة وطنية. هذه الأرض التي تصفها الكاتبة في أول كتابها في اقتباس "نحن لسنا أرضًا، نحن هواء"، وتكمل لتقول: "نحن بالنسبة للعالم أرض مجهولة، غير معروفة، روسيا البيضاء هكذا يلفظ تقريبًا باللغة الإنجليزية اسم بلدنا، أمّا تشرنوبل، فيعرفها الجميع، لكن بارتباطها بروسيا وأوكرانيا فحسب، ولكن ما زال ينبغي أن نتحدث عن أنفسنا".

اقرأ/ي أيضًا: سفيتلانا أليكسيفيتش.. نوبل للآداب 2015

خير اقتباس للبدء بوثيقتها التاريخية تلك، أو وثائق/ كتب/ قصص قصيرة.. كما يمكن أن يقال كل ذلك عن السطور الممتلئة بالسرد التاريخي والأحداث الواقعية، التي عاشوها أبطال وشخصيات وشهود روايات أليكسييفيتش، أو تلك الوثائق التاريخية التي عملت عليها، وأوصلتها إلى أرفع جائزة أدبية، ولكن أين الأدب في ذلك؟ يبدو هذا السؤال محتملًا في كتلة الوثائق والشهادات الإنسانية، المتوقفة عند أكثر كوارث البشرية عنفًا، إذ إن الروايات تحمل بطبيعة تشكلها كل عناصر النقل والتوثيق والروي الشفهي والمكتوب، تلك التجربة الإنسانية التي تضعك أمامها الروائية تبدو حقيقية ومهولة، مستخدمةً فيها كل أشكال السرد والتقرير. 

هذا الأدب الوثائقي ليس إلاّ شكلًا من أشكال الأدب الأكثر التصاقًا بوقائع تحرضك على الأسئلة، حين تحكى حكاية العالم من وجهة نظر التجربة والشهادة. وعليه كانت قد هُوجمت بعد نشر مقاطع من روايتها "فتيان الزنك" (ترجمة عبدالله حبة، دار ممدوح عدوان 2016) التي تروي وقائع التدخل السوفيتي في أفغانستان، من خلال مقابلات مع جنود عائدين من الحرب، وأمهات وزوجات جنود قتلوا وأعيدت جثثهم في توابيت مصنوعة من الزنك. في النص الذي كتبته الكاتبة دفاعًا عن نفسها والمنشور في الصفحات الأخيرة من الكتاب، بعد اتهامها بإهانة شرف وكرامة أم أحد الجنود المقتولين، وتأخذ عليها المحكمة الشكل الوثائقي لكتاباتها وتعتبرها بمثابة شهادات موثقة، مبتعدةً بذلك عن كل ماهو فني وأدبي بأسلوب الروائية. "مالذي يجب أن أدافع عنه، أدافع عن حقي ككاتبة في رؤية العالم كما أراه، وعن حقي في كره الحرب. (...) إن الكتب التي أُؤلفها هي وثيقة وفي الوقت نفسه رؤيتي للزمن. أنا أجمع التفاصيل والمشاعر ليس من حياة فرد معين، بل من كل هواء الزمن وفضائه وأصواته، أنا لا أبتدع شيئًا، ولن أضيف من عندي، بل أجمع مواد الكتاب في الواقع نفسه، الوثيقة هي ما يروونه لي، وجزء منها هي أنا ككاتبة لها رؤيتها للعالم وأحاسيسها". 

وجهة النظر تلك هي ما يبدو همًا أساسيًا وأدبيًا على حدٍ سواء في إنتاجات الكاتبة، وهي القوى المحركة التي تجعل من الأخيرة تنحو نحو تلك الأهوال والمآسي، تقدم ما ترى وتسمع، بصيغة المونولوغ المعهودة تلك، تسند الحكاية إلى الشخصيات التي تقارب المأساة من وجهة نظرها، ولكن من موقعها السابق ورؤيتها الراهنة لها، هذا ما تقف عنده دائمًا في "آخر الشهود" حيث هؤلاء الشهود، أو الأطفال بين الرابعة والسابعة كما يبدو من أعمارهم المدونة إلى جانب أسمائهم، ما زالوا عالقين هناك، بثقل تلك التفاصيل والذكريات. أطفال يبحثون عن أمهاتهم، أشخاص كبار يمارسون مهنًا عادية، لكن عقولهم تعاني مما كانوا يعانون منه سابقًا، إنهم هناك في ذلك المكان والظرف عينه، ولشدة حساسية ذلك، يبدو "آخر الشهود" مؤلفًا روائيًا بصيغة محاكمة للحروب ليس فقط من وجهة نظر الكاتبة، بل من وجهة نظر الشهود أيضًا، هؤلاء الأطفال الذين لم يهتموا بأسباب الحرب ونتائجها. 

في "آخر الشهود"، تترك الكاتبة المجال فسيحًا للذاكرة والورق على الامتلاء تلقائيًا

تقول إحدى الشاهدات: "خلال فترة الحرب أفكر في أمي، فقد فقدت أمي منذ أيام"، الإحساس الدائم بالحرب والفقد يلازمها، وكأنها البارحة. الكبار لا يزالون صغارًا يحكون عن ذكرياتهم بعد سنوات، وكأنها قد جرت منذ أيام. وآخر يقول: "أحيانًا تتألق الذاكرة بشدة... كل شيء يعاود الكرّة". وفي وثيقة أخرى: "أخي ما زال يبكي عندما نذكر أبي، لأنه لم يره".

اقرأ/ي أيضًا: قتلتُ لأنني أردتُ أن أحيا

"شعر أمي احترق"، إنما البيت كله احترق، ولكن الشخصية لم تعرف من الحريق إلاّ الأم. يبدو الأبطال وكأنهم بأنصاف وعي وأنصاف حقيقة، لا ينبغي الكلام أكثر، حتى إنه لا تعليقات للكاتبة في أول وآخر الكتاب، كما جرى في كتابيها المترجمين "صلاة تشرنوبل" و"فتيان الزنك"، تاركةً كل المجال الفسيح للذاكرة والورق على الامتلاء تلقائيًا، وللقارئ الكثير من الوقت للتأمل بخرابات الأرض، ولا أجوبة يمكن أن تسوقك إليها الروايات، هي وثائقيات ومذكرات لتحفيز البحث في كوارثنا. لعل ذلك لا يعيدها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مقطع من "المتطوعون".. رواية مواسير سكلير

رواية 1984.. التحفة الأدبية التي قتلت جورج أورويل