26-نوفمبر-2015

من معرض احتفالي بعيد ميلاد بوتين في تشرين الأول/أكتوبر الماضي

في الثاني والعشرين من حزيران/ يونيو 2012 أسقطت قوات الدفاع الجوي السوري مقاتلة تركية من طراز إف ـ 4، سقطت فوق البحر المتوسط وأدت إلى مقتل طياريها. يومها دعت الخارجية الروسية في بيان لها كلًا من أنقرة ودمشق إلى ضبط النفس والتعامل البناء بغية استيضاح كافة ملابسات الحادث مع الطائرة التركية، بعدها بأربعة أيام التقى بوتين العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في عمان.

انتظر أردوغان وحلفاؤه ثلاثة أعوام ونصف، ليرد على إسقاط طائرته في عملية استعراض للقوة 

وقتها قال الرئيس السوري بشار الأسد الذي تسانده روسيا بكل ما أوتيت من قوة إنه "يشعر بالأسف"، ولكن الطائرة كانت آنذاك في المجال الجوي السوري، فما كان من دفاعاته الجوية إلا أن أسقطتها. آنذاك سرت أنباء عن أن روسيا هي من كانت وراء إسقاط الطائرة التركية، أو في أحسن الأحوال هي من طلبت من سلاح الجو السوري إسقاطها. 

ثلاثة أعوام ونصف انتظرها أردوغان وحلفاؤه، ليرد على إسقاط طائرته في عملية استعراض للقوة لا يملك حتى أعتى أعدائه إلا الاعتراف بشجاعتها، ليس لأن أردوغان أخذ بالثأر، بل لأنه أخذ بالثأر بعد حسابات دقيقة وترتيبات جعلت لعبارة "الاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين" بعدًا جديدًا في الصراع السياسي والعسكري. فها هي القوات الدفاعية التركية تسقط يوم الرابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر مقاتلة سوخوي الروسية، وذلك خلال لقاء مع العاهل الأردني عبد الله الثاني، ولكن في روسيا هذه المرة وليس في الأردن، وها هي أمريكا ومعها أوروبا تدعو إلى ضبط النفس كما فعلت روسيا سابقًا، وأردوغان: يعرب عن أسفه من إسقاط المقاتلة الروسية ولكنه اعتبره ردًا تلقائيًا من قبل قواته كما فعل نظيره السوري بشار الأسد سابقًا.

يبدو أن الرسالة وصلت وفهمها بوتين جيدًا، ولكنه بدا كالثور الهائج من الإجراءات التي اتخذتها حكومته، واضطرت وسائل الإعلام الروسية إلى الاعتراف بأن الطائرة الحربية الروسية لم تحلق فوق الأجواء سوى سبع عشرة ثانية قبل استهدافها، تمامًا كما اعترفت تركيا سابقًا بأن الاختراق لم يتعد كيلومترًا واحدًا.

لا أعلم إذا كان أردوغان فعل ذلك لما شرحته سابقًا عن قصد، أو أن الوقائع والأحداث جاءت صدفة محضة، ولكن الكل ممن يجهل تلك الخلفيات توقع بعد هذا الخبر ردًا روسيًا عنيفًا، من قبل بوتين الذي اعتبر العملية "طعنة من الظهر"، وبات العالم مترقبًا للرد وسط قلق أوروبي وأمريكي ودعوات إلى التهدئة، لكن الرسالة البوتينية المتوقعة بانت من عنوانها عندما أعلن رئيس الحكومة التركية أنه قد تعمد روسيا إلى التخلي عن عدد كبير من المشاريع المهمة المشتركة وفقدان الشركات التركية لمواقعها في السوق الروسية، وأتبعه تصريح للمندوب الروسي لدى الاتحاد الأوروبي فلاديمير تشيجوف ليحسم جدل الرد بقوله خلال لقاء تلفزيوني مع قناة "يورونيوز" إن إسقاط قاذفة القنابل الروسية "سو-24" كان هجومًا مدبرًا، مؤكدًا أن الرد الروسي لن يكون عسكريًا.

حتى أن بوتين في رده على أردوغان لم يجرؤ على اللعب بورقة الغاز رغم ما يثيره من مخاوف عند الأتراك، فروسيا تلبي أكثر من نصف احتياجات الغاز في تركيا، إذ أرسلت وزارة الطاقة الروسية تطمينات إلى تركيا بإعلانها مواصلة تزويدها بالغاز الطبيعي الروسي بحسب الالتزامات التعاقدية.

واضح من الخطوات التي اتخذتها روسيا تجاه تركيا أن الطرفين سيدخلان في حرب باردة

ربما كان الرد الأكثر أهمية هو إعلان وزير الدفاع الروسي سيرغي شايغو أن وزارته ستنشر في قاعدة "حميميم" قرب اللاذقية المنظومة الأحدث للصواريخ المضادة للجو "إس – 400"، هي منظومة كانت دمشق قد طلبت أكثر من مرة نشرها على أراضيها بعد هزيمة 1967، ولكن رفض الطلب، ثم طلبها حافظ الأسد خلال زيارته إلى موسكو ولقائه مع غورباتشوف ورفض أيضًا، وبعد موافقة بوتين خلال لقاء جمعه مع بشار الأسد مطلع هذا القرن، عاد ورفض بضغط إسرائيلي، المهم أن هذه المنظومة ستنشر في اللاذقية قريبًا، ولكن الفريق تشارلز براون مسؤول العمليات الجوية في القيادة المركزية للقوات الأمريكية قال في حديث لصحيفة "Air Force Times" عن هذه الخطوة: "هذا يعقد الأمور قليلًا، ونحن نفكر فيه. لكن لدينا عمل ونتابع تنفيذه، هو تدمير الدولة الإسلامية"، وأكد أن هذا "لا يعيق العملية الجوية الأمريكية بشكل عام".

واضح من الخطوات التي اتخذتها روسيا أنه لن يكون هناك حتى قطع للعلاقات مع تركيا، ولكن سيدخل الطرفان في حرب باردة واستغلال كل ما هو متاح "ليعلّم أحدهما على الآخر" كما يقول المثل الشعبي.، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي سيحتفظ بحق الرد للزمان والمكان المناسبين كما فعل نظيره أردوغان من قبل، يعلم علم اليقين أن نظيره التركي لم يكن ليتخذ مثل هذه الخطوة التصعيدية بدون دعم ومعرفة أمريكية مسبقة، وربما جاءت بطلب أمريكي وليس بقرار تركي حتى، ويعلم جيدًا أن أي رد عسكري على تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي، سيعني مواجهة مباشرة مع الحلف، لن يدخلها بوتين حاليًا حتى يتسنى له تعزيز وجوده العسكري في سوريا كما هو الحال في أوكرانيا، مستغلًا من كل الظروف ليفعل ذلك.

بوتين الذي تعمل ماكينته الإعلامية صباح مساء على تلميعه كبطل خارق قادم من كتب "الأساطير القديمة"، بصورة تجعله يشبه الإسكندر وآلهة الإغريق، ولكونه الزعيم الذي سيعيد إلى روسيا مجدها القديم وسيقضي على عالم أحادي القطب؛ يجد نفسه اليوم أمام امتحان لاستعراضات قوته التي وجه لها أردوغان، بدعم أمريكي، صفعة عنيفة وطعنة في ظهر هيبتها، ويبدو أنه سيكون أمام صراع داخلي عنيف بين مصالح نظامه الذي تحكمه البراغماتية، وبين مطالب شعبية تنتظر من "بطلها الأسطوري" الرد على تركيا، ليس لإسقاط طائرة سوخوي على الأقل، بل للتمثيل بجثة الطيار الروسي الذي يمثل مقتله بهذا الطريقة إهانة لشرف المحاربين، كذلك يفعل أبطال الأساطير الذين يلهث بوتين لأن يكون مثلهم ذات يوم.

اقرأ/ي أيضًا:

نظرية الألعاب كتفسير لداعش

الأسد.. مصيرٌ تصنعه تحالفات روسيا