24-يوليو-2016

مشهد لدبابات الجيش التركي أثناء محاولة الانقلاب (Getty)

معدل الأحداث العنيفة والفوضوية حول العالم يتسارع. على الأغلب إنها ليست مصادفة. المقال التالي ترجمة لمقال في مجلة "فورين بوليسي" يحاول تفسير ذلك.

هناك لحظات في التاريخ يبدو فيها الوقت مضغوطًا، عندما تزدحم الكثير للغاية من الأحداث المهمة معًا بحيث يصبح من شبه المستحيل متابعتها

___

في خريف عام 1989، بينما كان الستار الحديدي ينهار في دولة وراء دولة، كان لدي مع بعض الأصدقاء فكرة لمادة تاريخ جديدة. كانت سوف تدعى "أوروبا منذ الأربعاء الماضي".

هناك لحظات في التاريخ يبدو فيها الوقت مضغوطًا، عندما تزدحم الكثير للغاية من الأحداث المهمة معًا بحيث يصبح من شبه المستحيل متابعتها. يقال إن لينين قال إن "هناك عقودًا لا يحدث فيها شيء، وهناك أسابيع تحدث فيها عقود" (لكن تلك المقولة، للأسف، يرجح كونها ملفقة).

قبل لينين بزمنٍ طويل، قال الكاتب الفرنسي شاتوبريان ساخرًا إنه خلال الربع القرن الذي شهد قيام الثورة الفرنسية والنظام النابليوني، مرت قرونٌ عديدة. في أواخر عام 1989، شهدت فترة ثلاثة أشهر نهاية السلطة الشيوعية في المجر وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا وسقوط حائط برلين، بالإضافة إلى الاجتياح الأمريكي لبنما، ولقاء قمة مالطا بين ميخائيل جورباتشوف والرئيس الأمريكي جورج بوش الأب حيث أعلن الزعيمان أن الحرب الباردة قد انتهت: لقد احتشدت أعوامٌ طويلة من التغيير في فصلٍ واحد.

هل نعيش الآن في إحدى هذه الفترات من التصارع الزماني؟ لقد كانت الأسابيع القليلة الماضية باعثةٌ على الدوار بكل تأكيد. في الثالث والعشرين من يونيو، صدم البريطانيون الرأي العام العالمي (وأنفسهم) عبر التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. في السابع من يوليو، قُتل خمسة ضباط شركة في إطلاق نار بمدينة دالاس، ما بعث مخاوف من حدوث اضطرابٍ واسع في الولايات المتحدة. بعد أسبوعٍ واحد، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عن المذبحة الأخيرة التي ضربت الغرب، هجومٌ إرهابي في يوم الباستيل الفرنسي أسفر عن مقتل العشرات في نيس، وقبل أن يبدأ ذلك الحدث في الخفوت من الإعلام، كانت هناك محاولة انقلابٍ في تركيا. ثم وقع حادث إطلاق النار على الشرطة في مدينة باتون روج بولاية لويزيانا الأمريكية.

اقرأ/ي أيضًا: 4 معلومات عن صاحب أشهر موقع للتورنت تم القبض عليه

وقع كل هذا، علاوةً على ذلك، على خلفية حربٍ طائفية مروعة بلا نهاية في سوريا، وتوتراتٍ متصاعدة بين حلف الناتو وروسيا، وأكبر اضطرابٍ سياسي في التاريخ الأمريكي الحديث، مع إكمال مرشحٍ شعبوي ليس لديه خبرة سياسية لتمرده الناجح ضد مؤسسة الحزب الجمهوري ليصبح مرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية لعام 2016. تتصاعد السلطوية الشعبوية في العديد من البلدان الأخرى حول العالم. يستدعي هذا إلى الذاكرة اللعنة الصينية الشهيرة (التي يرجح كونها ملفقة تمامًا مثل مقولة لينين)، يبدو أننا نعيش في "أوقاتٍ مثيرة".

بالطبع، لا شيء في 2016 حتى الآن يمكن مقارنته بالأوقات الأكثر "إثارة" في تاريخ العالم. في عام 1940، وخلال أقل من ثلاثة أشهر، احتلت ألمانيا النازية النرويج والدنمارك وهولندا وبلجيكا وفرنسا، بينما احتل الاتحاد السوفيتي ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا. بعد عامٍ من ذلك التاريخ، شهدت فترة ثلاثة أشهر أخرى اجتياح النازيين الغازين لمئات الكيلومترات داخل الاتحاد السوفيتي، بادئين في الوقت ذاته القتل الجماعي المنهجي لليهود والآخرين من "غير المرغوب بهم".

خلال فترة أسبوعين فقط في آب/أغسطس 1945 تم اختتام مؤتمر بوتسدام، وإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجازاكي، وإعلان الحرب السوفيتي على اليابان، واستسلام اليابان الذي أنهى الحرب العالمية الثانية. حتى الآن، كان عام 2016 أقل "إثارة" من 1989، وفي ذلك السياق، 1991. شهد ذلك العام حرب الخليج، ومحاولة الانقلاب ضد ميخائيل جورباتشوف، وتفكك الاتحاد السوفيتي، واغتيال رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي. ثم هناك عام 2001، وهو عامٌ كان مفرط الإثارة لأسبابٍ لا تحتاج إلى إعادتها.

لكن عام 2016 مر نصفه بالكاد، ومن الممكن تمامًا أن تتسارع سلسلة الأحداث التي نشهدها، لينتج عنها عواقب لا يمكن التنبؤ بها. من الجدير بالتذكر أن الأحداث الاضطرابية يمكنها أن تستحث أخرى بطرقٍ متعددة، حتى على مسافاتٍ بعيدة. أحيانًا تكون الارتباطات واضحة، بينما لا تكون كذلك في أحيانٍ أخرى.

لا نعلم القصة الكاملة لمحاولة الانقلاب في تركيا، لكن من الممكن تخيل أن العنف الذي يقع في أماكن أخرى قد شجع مدبري الانقلاب على التحرك

من الناحية الأكثر وضوحًا، قد ينتج عن حدثٍ اضطرابي محاكاةً مباشرة. في عام 1848، بعد أن قامت ثورتان ليبراليتان في صقلية وفرنسا، انتشرت موجة من الانتفاضات استمدت الإلهام منهما جزئيًا على الأقل إلى الدنمارك والإمبراطورية النمساوية وبلجيكا والعديد من الدول الألمانية والإيطالية. في عام 1968، انتشرت التمردات الطلابية عبر العالم الغربي في محاكاةٍ مفتوحة وتعاونٍ مع بعضها البعض، لتصل إلى ذروتها في شهر أيار/مايو بباريس، عندما دفع ما بدا أنه أنهيارٌ للنظام الرئيس الفرنسي شارك ديجول إلى الهرب من فرنسا إلى قاعدةٍ عسكرية في ألمانيا لفترةٍ وجيزة.

في أواخر الثمانينيات، كثيرًا ما قادت التصدعات في أحد أجزاء الكتلة السوفيتية الإصلاحيين والمعارضين في أجزاءٍ أخرى إلى محاولة فعل نفس الشيء، أو الذهاب إلى ما هو أبعد. في خريف عام 1989، سقطت الأنظمة التابعة مثل أحجار الدومينو التي يضرب بها المثل، واحدًا تلو الآخر. وفي وقتٍ ليس ببعيد، شوهدت أنماطٍ مماثلة مع "الثورات الملونة" في الاتحاد السوفيتي السابق، ومع الربيع العربي. واليوم، ومع كل هجومٍ إرهابي، تقوم جماعاتٌ مثل تنظيم الدولة الإسلامية بأفضل ما في وسعها لنشر ما قد حدث وتمجيد المرتكبين له وحث الآخرين على محاكاة هؤلاء "الشهداء".

اقرأ/ي أيضًا: ماذا تفعل القوات الفرنسية في ليبيا؟

لكن الاضطراب قد يتضاعف أيضًا بسبب الفرص التي يخلقها. على سبيل المثال، قد يبدو العدوان العسكري مغريًا على نحوٍ خاص عندما يكون الناقدين أو الخصوم المحتملين منشغلين بمشاكل في أماكنٍ أخرى. لم تكن مصادفة أن ستالين اختار أن يبدأ في احتلال دول البلطيق في الخامس عشر من حزيران/يونيو 1940، بعد يومٍ واحدٍ فقط من دخول الجيش الألماني لباريس. في آب/أغسطس 1968، شجعت حقيقة أن الولايات المتحدة كانت تترنح نتيجة اغتيال مارتن لوثر كينج وروبرت كينيدي بينما كانت مازالت غارفة في حربٍ صعبة في فيتنام، الاتحاد السوفيتي على إنهاء "ربيع براغ" بالقوة بغزوه لتيشكوسلوفاكيا.

مازلنا لا نعلم القصة الكاملة لمحاولة الانقلاب في تركيا هذا العام، لكن من الممكن على الأقل تخيل أن الأحداث العنيفة التي تقع في أماكن اخرى من العالم قد شجعت مدبري الانقلاب على التحرك. بالنظر إلى سلسلة الهجمات الإرهابية الأخيرة، كان ليكون من الأصعب على الولايات المتحدة وحلفائها القيام بتحركٍ سياسي ضد حكومةٍ عسكرية تركية تعهدت بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية وإلغاء إصلاحات أردوغان الإسلامية، مقارنةً بالسنوات الماضية.

في المقابل، يمكن للمخاوف بشأن الاضمحلال أن تقود كذلك إلى سلسلةٍ من الاضطرابات، دافعةً مجموعاتٍ أو أممٍ كاملة إلى القيام بتحركٍ عدائي كرد فعلٍ على حدثٍ عنيف، خوفًا من أنهم سوف يفقدون الفرصة للقيام بأي تحركٍ فعال على الإطلاق إذا انتظروا لفترةٍ أطول. يعتقد الكثير من المؤرخين أنه في عام 1914، تصرفت ألمانيا بعدوانية عقب اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند، مسببةً اندلاع حربٍ شاملة، بسبب الاعتقاد السائد بين النخبة الألمانية آنذاك بأنهم يخسرون سباق تسلح لصالح بريطانيا وفرنسا. الأسوأ من ذلك، أن تلك المخاوف لا يكون لها أساس كبير في الواقع. عادةً ما يتم نسيان أنه في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، عندما كان الاتحاد السوفيتي على أجهزة الإنعاش بالفعل، اعتقد جزءٌ كبير من الأمريكيين أنه في الواقع عملاقٌ هائل سوف يسحق قريبًا غربًا ضعيفًا ومتفسخًا.

يمكن أن يقود الاضطراب مع المخاوف والآمال التي يولدها، إلى شعورٍ بأنه قد تم تعليق القواعد العادية للسلوك، وأنه يجب اتخاذ تدابير متطرفة

مع تأكيد ذلك التشخيص من قِبل تقديراتٍ مبالغٍ بها للقدرات السوفيتية من قِبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، حتى قبل انتخاب رونالد ريجان بدأت الولايات المتحدة في زيادة قدراتها العسكرية على نطاقٍ واسع. اليوم، ورغم ان الاقتصاد الأمريكي في حالٍ جيد، وميزانيتها العسكرية تزيد على الميزانيات العسكرية للدول الثمان التالية مجتمعة، عادت المخاوف من الاضمحلال مع رغبةٍ في الثأر، كما تتمثل في إصرار دونالد ترامب على أن جميع الدول الأخرى تقريبًا "تستغلنا". من السهل للغاية رؤية كيف يمكن لتلك المخاوف الزائفة إلى حدٍ كبير أن تقود، في الظروف الخاطئة، إدارةً أمريكية إلى القيام بخطواتٍ اضطرابية بدرجةٍ خطيرة ضد من يفترض أنهم خصومٌ أكثر تهديدًا.

أخيرًا، يمكن أن يقود الاضطراب واسع النطاق، مع المخاوف والآمال الكبيرة التي يولدها، إلى شعورٍ بأنه قد تم تعليق القواعد العادية للسلوك، وأنه يجب اتخاذ تدابير متطرفة. في تاريخ العالم الغربي، ارتبطت تلك الأنماط بالنبوءات اليهودية والمسيحية الاكثر قوة: مجيء المسيح؛ المجيء الثاني للمسيح؛ يوم الحساب.

منذ بداية الحقبة المسيحية، لا يكاد يمر عام دون أن تصر مجموعة من المسيحيين على أن نهاية الزمان قد جاءت. إذا قاد مثل هذا الاعتقاد إلى عملٍ عدائي ضد الزنادقة أو الكفار المفترضين، فإن العنف الناتج قد يقود آخرين بدورهم إلى الاعتقاد باقتراب يوم الحساب، فيما يرقى إلى حلقةٍ مفرغة من القوة الهائلة المدمرة.

يعتقد بعض المؤرخون أن شيئًا من هذا القبيل حدث قبل الإصلاح الديني، عندما أدى انقصال مارتن لوثر عن كنيسة روما إلى اعتقادٍ واسع بقرب نهاية العالم، ما تسبب في صراعٍ عنيف، قاد بدوره إلى المزيد من الاعتقاد بنهاية العالم، وهكذا. كانت النتيجة أعوامًا من الحرب الدينية الدموية أهلكت أغلب أوروبا. اليوم، يعتقد متعصبو تنظيم الدولة الإسلامية أنهم منخرطون في معركة نهاية العالم بين المسلمين وغير المسلمين من أجل مستقبل العالم، ومع كل فظاعةٍ يقنعون المزيد من الأشخاص في الغرب بأنهم، في هذه النقطة، محقين.

لكن ليس من الضروري أن يكون النمط دينيًا. هناك أيضًا نسخٌ علمانية من قصة نهاية العالم. كما أعلن نشيد الأممية الماركسي باقتضاب: "إنه الصراع الأخير". يمكن للاعتقادٍ بالوصول إلى صراعٍ محددٍ لمصير العالم أن يقود إلى تعليق جميع القواعد العادية تمامًا مثل اعتقادٍ بأن المسيح قد عاد، لينتج موجةً هائلة بنفس القدر من الاضطرابات العنيفة من حدثٍ واحد.

يمكن القول إن هجمات 11 أيلول/سبتمبر كان لها هذا التأثير في الولايات المتحدة، حيث وصلت إدارة بوش إلى قناعةٍ بأنها تحتاج إلى خوض حربٍ ضد دولة لم تهاجمنا من أجل التخلص مما رأته خطرًا وجوديًا على النظام العالمي.

من غير الواضح تمامًا ما إذا كان صيف عام 2016 المضطرب والقلق سوف ينتج أي شيء مثل الاضطرابات المتوالية التي شهدتها أعوامٌ مثل 2001 أو 1989، وما إذا كان الشعور الحالي بتسارع الزمن سوف يستمر. ببعض الحظ، فإن الطوفان الجارف من الأخبار السيئة في الواقع سوف يخفت، وسوف يتم تذكر بقية هذا العام بالبلادة الهادئة بدلًا من "الإثارة الدموية". يمكننا أن نأمل في عدم ظهور عام 2016 في عناوين مواد التاريخ الجامعية في المستقبل. لكن كما تشير تلك الأمثلة التاريخية، هناك الكثير للغاية من الطرق التي يمكن بها لنيران العنف والاضطراب أن تنتشر فجأة، بل وأن تتحول إلى عاصفةٍ نارية.

اقرأ/ي أيضًا: 

أهم 10 مؤتمرات قمة في تاريخ جامعة الدول العربية

"زيرو كريساج".. حملة مغربية لمحاربة الجريمة