17-ديسمبر-2015

ما الذي تغير في مهد الثورة سيدي بوزيد؟(فراد دوفور/أ.ف.ب)

"إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلًا"، قد تلخص هذه المقولة إلى حدّ بعيد حالة الارتباك الشديدة لمسار خمس سنوات من الثورة التونسيّة، فالمتحدّث لن يفقد الموضوعيّة فحسب بل سيكون مضطرًّا إلى الهروب من الواقع الذاتي إلى النقد والنقل معًا، فأطلس السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر لم يقف عند حدود تونس الضيّقة بفساد نظامها واستبداده وتبعيّته فحسب بل تجاوز حدودها وحتّى قواعد ونواميس "الثورة" في حدّ ذاتها بكلّ ما للكلمة من معنى.

ثورة المختلف

لم تكن الثورة التونسية مؤدلجة ولا كان مخططًا لها حتى أن الصدمة التي رافقت هروب بن علي كانت أكبر في وقعها على كثيرين من انعكاسات الثورة نفسها

ارتبطت "الثورة" في المخيال العربي عمومًا بـ"الانقلاب" على السلطة وتلاوة بيانات فضفاضة تختزل في مضمونها الكثير من انتظارات الشعوب لكنّها سرعان ما تعيدهم إلى مربّعهم الأوّل أو أتعس منه قليلًا أو كثيرًا، وارتبطت أساسًا في مخيال النخب المؤدلجة بقوالب جاهزة لثورات حدثت في التاريخ البشري وفي الحالتين لا تقاس الثورة التونسيّة وفق هذه الأسس ولا بقواعدها فهي ليست ثورة مؤدلجة ولا كان مخطط لها أو سبقتها تنظيرات وكتابات في هذا الاتجاه حتّى أنّ الصدمة التي رافقت هروب المخلوع بن علي كانت أكبر في وقعها على كثيرين من انعكاسات الثورة نفسها.

ثورة سلميّة، بعدد قليل من الشهداء والجرحى وشعب لم تكن تظهر عليه أيّ مؤشرات الانتفاض إلاّ نادرًا أو في فترات معيّنة، دون قيادة وتأطير وبشعارات واضحة حدّدت "عدوّها" بدقّة، هذا هو الاستثناء الحقيقي الذي لا يراد الحديث عنه في تونس أمّا ما تلى ذلك فهو مسار مفتوح على عدّة معطيات ومتغيرات أخرى، ومن ذلك الاستثناء تستمد الثورة التونسيّة خصوصيّتها المختلفة تمامًا عن باقي الثورات من سابقاتها فهي قد جمّعت الفرقاء جهويًا وفكريًا وطبقيًا، على قلّتهم، في ساحات الفعل السياسي بهدف واحد عنوانه "الشعب يريد إسقاط النظام".

مطالب الثورة معلّقة

في الخمس سنوات الأخيرة، عاشت تونس على وقع ثقل التخمة السياسيّة التي طمست المطالب التنمويّة والاجتماعية والاقتصادية للثورة وأصبح الحديث ينقسم بين مثمّن لمنجز شكلي في الديمقراطيّة وهو أساسًا الدستور والتداول السلمي للسلطة ومنفلت يحاكم الثورة بأشكال مختلفة من تبييض النظام السابق إلى فتح جبهات هامشية ميّعت القضايا المركزيّة واستحضرت صراعات أيديولوجيّة قديمة متجددة تستمدّ منها بعض النخب وجودها وحضورها في المشهد وتستمدّ منها المنظومة القديمة حجّة بقائها وعودتها متخفية ومعلنة إلى الواجهة.

وضع اجتماعي هشّ، غياب شبه تام للاستثمارات مع مواصلة الاشتغال بنفس منوال التنمية الموروث عن المنظومة السابقة، كلّها مؤشرات تحيل إلى استمرار المعاناة التي لن تنتهي بعصا الساحر بكلّ تأكيد ولكنّها لن تنتهي بنفس العقليّة وبنفس البرامج الفاشلة الموروثة عن سنوات الحيف والفساد ولعلّ الأخطر في الأمر أن الباب السابع من الدستور التونسي الجديد المتعلق بالديمقراطيّة التشاركيّة بات اليوم مهددًا فعليًا ومع عدم تفعيله تبقى كلّ مقوّمات الدولة المركزيّة قائمة الذات دون أن تتحرّك قيد أنملة نحو هامشها الذي فجّر الثورة.

رئيس الحكومة الحالي الحبيب الصيد وعدد كبير من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين يقرّون اليوم بأنّ نفس الأسباب التي تسببت في اندلاع حراك السابع عشر من ديسمبر الثوري متوفّرة غير أنهم يراوحون في التبرير بين السعي إلى تحقيق مكاسب سياسيّة والعمل على الوصول إلى هدنة اجتماعيّة يقال إنها ستجلب الاستثمار والتنمية ولا يصدّق المستمعون لهذه الخطابات في الغالب الوعود فالتجربة أثبتت أن الوعود الحكوميّة تبقى حبرًا على ورق في ظلّ استمرار نفس الإدارة العميقة السابقة في مناصبها.

كلّ مقوّمات الدولة المركزيّة قائمة الذات في تونس دون أن تتحرّك قيد أنملة نحو هامشها الذي فجّر الثورة

من المفارقات في الحقيقة أن تأخر التنمية يبرره بعضهم في تونس بالحرب على الإرهاب الذي ضرب اقتصاد البلاد وأمنها في مقتل ولكنّهم يتناسون أو يسقطون عمدًا من تحليلهم هذا أنّ كلّ الدراسات التي تحترم قواعد الصرامة العلمية تشدّد على العلاقة بين الإرهاب و"الإقصاء الاجتماعي" ليظهر جليًا في البلاد أن دعم ميزانيّة وزارتي الدفاع والداخليّة مقابل الإبقاء على منوال التنمية القديم هو إجراء يدعم ركائز الدولة على شاكلتها القديمة لا كما يجب أن تكون، كما يروّجون.

الجرحى والشهداء منسيّون

خمس سنوات منذ انطلاق الثورة التونسيّة ولا تكاد تسمع أحدهم يتحدّث عن شهدائها ولا عن جرحاها الذين تفرقت بهم السبل في غياب أيّ سند لهم ولعلّ الدليل الأكبر على ذلك أنّ قائمة هؤلاء لم تصدر إلى اليوم بل ودخلت سوق المزايدات السياسيّة بعد أن فشل أغلب الفاعلين السياسيين في وضع اليد عليهم أو على معاناتهم ليستثمر البعض في دماء من قضوا بسبب الإرهاب، متناسين من سمح لهم بالتواجد أصلًا في المشهد.

تغيّرت التهم في قضايا شهداء وجرحى الثورة التونسيّة وصدرت الأحكام المثيرة للضحك والبكاء في آن واحد فتهمة القتل العمد قد أصبحت مكروهة في عرف القضاء التونسي رغم توفر الأدلّة والعقوبات. حدثت مهزلة حقيقيّة ما دفع بمحاميي عائلات شهداء وجرحى الثورة التونسيّة إلى استئنافها وحتّى المرور إلى طور التعقيب ولا أحد يحرّك ساكنًا ولا حتّى الإجراءات العاجلة قد تم الإيفاء بها بل أنّ بعضهم أصبح موضوع تندّر بصفة "جريح ثورة" وبعضهم صار من شدّة الألم لا يغادر منزله البتّة.

كتابة دولة برمّتها لشهداء وجرحى الثورة التونسيّة ضربت عرض الحائط بملفاتهم وأقرّت إجراءات عاجلة لعائلات من سقطوا بعدهم في عمليات إرهابيّة غادرة، وكاتبة الدولة نفسها شقيقة سقراط الشارني، أحد عناصر الحرس الذي استشهد في عملية إرهابية، والذي صار علمًا تسمّى باسمه الشوارع وينسى حتّى من سقط معه في نفس العمليّة الجبانة، فقط لأنّ المسألة تتعلّق باستثمار سياسي وإعلامي لا غير.

دستور لا يحترم

نفس الأسباب التي أدت إلى اندلاع حراك 17 ديسمبر الثوري سنة 2010 متوفّرة الآن

رغم أنّ قراءة موضوعيّة للدستور التونسي الجديد تشير إلى كونه قد حمل في طياته إصلاحات جذريّة وكبيرة يمكن أن تؤسس لحياة ديمقراطية بالرغم من هناته إلاّ أنّ الواقع بيّن أنّه لا يتّصف بالعلويّة لسببين رئيسيين: أوّلًا أنّه يتمّ خرقه كلّ يوم، فقد تمّت في تونس محاكمة مدنيين أمام القضاء العسكري وخرق الآجال الدستورية لإرساء عدد من الهيئات الدستورية، ناهيك عن حل عدد من الجمعيات بطريقة تعسفية.

وثانيًا بالنظر إلى حجم ترسانة القوانين المتوارثة عن العهد البائد والتي تتناقض كليًا أو جزئيًا مع الدستور ومع روح الثورة نفسها ولعل من المضحك اليوم أن "قانون الهمج" الذي أصدر في سنة 1905 والمتعلق بإمكانية طرد ساكنة القواحل من المدن الكبرى لا يزال نافذًا بعد أكثر من مائة سنة.

على الرغم من الإشادة الدولية وحتى الداخلية بالدستور الجديد للبلاد، الذي صاغه المجلس الوطني التأسيسي، إلا أن الثابت اليوم أنه لا يزال في حدود الحبر على الورق بعيدًا عن التنزيل في الواقع ولا حتى وضع آليات لذلك.

توافق هش و"وسط" هلامي

لا شك أن إدارة الاختلاف بالحوار والجنوح إلى الآلية الأكثر تحضرًا للتدافع والتنافس السياسي منجز ضخم لا فقط لكونه الأكثر تحضرًا فحسب بل لكونه الوسيلة التي قطعت الطريق أمام الانقلابات وأمام إمكانية الدخول في نفق مظلم سقطت فيه تجارب مماثلة ولكن الأكيد اليوم أن هذا التوافق نفسه هو تنازل من أجل البقاء في المشهد من طرف الموافقين عليه وعلى مآلاته دون تقديم برامج أو بدائل واضحة تنقذ البلاد والعباد.

التوافق السياسي في تونس مطلب داخلي وخارجي في آن واحد لأن المنطقة في غنى عن بؤرة توتر أخرى ولكنه هش لارتباطه أساسًا بغايات وأهداف حزبية تتقاطع في جزء منها مع المصلحة الوطنية فالتنازل يأتي في الغالب من طرف واحد والتجديد من داخل الدولة خاضع للطرف المقابل وهنا تحديدًا فشلت التيارات السياسية من اليمين واليسار في الوصول إلى نقطة الالتقاء بحثًا عن المشترك المواطني الديمقراطي.

التوافق ونبذ خطابات الإقصاء مدخل رئيسي مهد لاقتراب واضح من طرف أغلب الفاعلين السياسيين إلى وسط الخارطة، الذي لا يزال جسمًا هلاميًا فلا من هم فيه أصلًا يدركونه ولا من هم نازحون إليه من اليمين ومن اليسار يدركون خصوصياته.

اللامبالاة.. المقاطعة وضريبة الصبر

لا شك أن المتابع للمشهد السياسي التونسي بعد خمس سنوات من اندلاع الثورة سيقف عند حجم اهتراء صورة السياسيين لأسباب عدة حتى أن البعض يذهب إلى القول بأن الأمر كان مبرمجًا لدفع الناس إلى التزام الصمت مجددًا لذلك كانت نسبة مقاطعي العملية الانتخابية كبيرة جدًا ومؤثرة واكتفى البعض الآخر بدور المتفرج والمستهلك للخطابات الإعلامية والسياسية التي تشجعه بعلم أو بغير علم أصحابها على تثبيت موقفه.

جزء كبير أيضًا من التونسيين يتحدث بعقلانية أكبر عن الواقع السياسي ليحيل مباشرة على ضرورة الصبر ودفع ضريبته من جسد الثورة والشعب المنهك حتى تنعم الأجيال القادمة بحياة أفضل لكن المتابع يذكرهم مباشرة بأن مخاض التأسيس ليس لمن هب ودب وليس مرتعًا لكل من يشتهي دخول مشهد سياسي مصاب بأمراض عدة.

منظومة قديمة عائدة ومنظومة جديدة بصدد التشكل

لا شك أن المشهد في تونس لن يستقر على تركيبته الحالية وأن متغيرات عديدة ستطرأ عليه وحتى إن بدا ظاهرًا للعيان أنه يتم عنوة جلد الجسم الثوري بشكل معلن أو بطريقة غير مباشرة فالمنظومة القديمة في أغلبها بقيت تراوح مكانها وحتى من تراجع خطوة فقد عاد للبحث عن مكان له مجددًا، يحمي من خلاله مصالحه التي لم تدمر بالكامل لأسباب متعددة.

أمام عودة المنظومة القديمة لا تزال منظومة الثورة لم تتشكل بعد ولكنها في طور التشكل دون علمها فالهرسلة الفاضحة للثورة والتناقض الكبير بين ماهو منشود وما يرفع في الشعارات والممارسة السياسية لأغلب الفاعلين دفعت الناس إلى أماكن موازية إعلاميًا ومدنيًا وفكريًا للبحث عن رموزها وقيادييها وبدأت تتشكل تلك العاطفة التي يمكن بتأطيرها الذود عن الثورة وشعاراتها والتأسيس لبدائل قوية وثابتة تمثل منطلقات حقيقية للإصلاح.

اقرأ/ي أيضًا:

أحوال شباب تالة.. لا شيء تغير

الحركة الشبابية ومهماتها التونسية

تونس..محاميان أمام القضاء العسكري في ذكرى الثورة!