04-يونيو-2016

غرافيتي لـ محمد علي كلاي

في منتصف الشهر الثامن من عام 2015، بل في الـ17 من ذلك الشهر تحديدًا، كان الجو قائظًا في تونس، ولا شك بأن كل عربي متابع يدرك بأن تلك البلاد الجميلة التي احتضنت قرطاج يومًا ما من تاريخها الحضاري المشرف، هي نفسها البلاد التي ستشتعل فيها شرارة الثورات العربية التي ستُعرف بالربيع العربي.

أهدى مارادونا قميصه لعلي بن ناصر، امتنانًا منه للحكم التونسي لاحتسابه الهدف الأكثر جدلًا في تاريخ كرة القدم

لكن الجو القائظ في ذلك اليوم لم يمنع زيارة دييغو مارادونا إلى تونس ولم يشغله عن الذهاب لمنزل علي بن ناصر. يعرف المطلعون أيضًا بأن مارادونا قد أهدى قميص منتخبه الأرجنتيني الذي كان يرتديه لعلي بن ناصر بعد أن وقع عليه باسمه، كل ذلك امتنانًا منه للحكم الكروي التونسي لاحتسابه الهدف الأكثر جدلًا في تاريخ كرة القدم في مرمى منتخب إنجلترا في مونديال 1986، الذي قام مارادونا بإدخاله بواسطة يده لا برأسه كما ظن علي، منذ ذلك اليوم اعتبر الهدف هدفًا قدريًا، وأعيدت مشاهدته ملايين المرات، ورغم أن صاحبه قد حقق في نفس المباراة هدفًا اعتبر "هدف القرن العشرين" بعد أن راقص ستة لاعبين من المنتخب الإنجليزي وهزمهم، إلا أن الهدف الأول بقي الأكثر إثارة للجدل، لاحقًا أطلق على يد مارادونا لقب "يد الله".

اقرأ/ي أيضًا: ساندرز: كيف تجرأ ابن مهاجر فقير على الحلم بالرئاسة

مارادونا لم يمت بعد، وهو حي يرزق في عقده الخامس، ورغم أن موت البطل العالمي محمد علي كلاي هو الخبر المسيطر على الإعلام حاليًا، إلا أنني أجد بنفسي الرغبة للكتابة عن مارادونا لا عن محمد علي، فالبطلان العالميان لا يستطيع أحد إنكار حضورهما وعبقريتهما الرياضية، وهما يتمتعان بشعبية نادرة عالميًا، واستطاع الاثنان أن يشغلا العالم بمواقفهما من قضايا مختلفة، فمحمد علي رفض الخدمة الإلزامية في الولايات المتحدة في حربها على فيتنام متحديًا الحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات، ومعلنًا بأن القيم التي يعتنقها لا تسمح له بقتل من لم يسيء له، وكذلك فإن مارادونا الذي رفضت الولايات المتحدة منحه الفيزا يومًا ما بسبب مواقفه السياسية التي تنتقد سياسيتها وصداقته مع الراحل هوغو تشافيز ومع الزعيم الكوبي الشهير فيدل كاسترو، لم يعبأ دائمًا بالدولة العظمى، غير أن تداعيات موت بطل الملاكمة وكما هو متوقع ستثير الكثير من الأسئلة، نظرًا لاعتناقه الدين الإسلامي، وفعلًا هذا ما بدأ يرشح بعد ساعات من إعلان وفاته. 

هكذا بات من السهل أن تجد كل الفيديوهات المسجلة للنجم المسلم، التي يتحدث فيها عن علاقته بالله ونظرته المتدينة للأمور، واستحالت بطولته - في نظر الكثيرين ممن لم يتابعوا للرجل مباراة واحدة في حياتهم- لبطولة شخص قد أشهر إسلامه متحديًا الغرب، غير مهتمين بأن محمد علي نفسه، كان مسلمًا يعيش في بلاد أحبها وآمن بها، وأن زيارته الشهيرة لصدام حسين مثلًا لم تجعل منه شخصًا مؤمنًا بالعنف لمجرد استقبال رئيس مسلم له، بل إنه نفسه كان متأثرًا بشخصية فذة هي نيلسون مانديلا، الذي لم يكن مسلمًا.
 
وبالعودة لمارادونا الذي قبل صديقته قبلة حميمية أثارت عقول الكثيرين بل أطارتها في الجزائر، بدعوى أن الجزائر بلد مسلم وينبغي احترام عاداته، في حضور وزير الرياضة ومسؤولين مهمين على عشاء رسمي، فقد صرح الأخير حينها بأنه رجل تحرري، وأنه يحترم ثورة الجزائر لأنها حررتهم، ولكن هذا لم يمنع الكثيرين من وصفه بالمعتدي "الحشاش"، فماذا لو أن مارادونا نفسه قد مات؟ هل ستنفى عنه صفات العبقرية الكروية من قبل من لا يصنف الناس إلا وفقًا لدينهم؟ ومن ناحية ثانية، هل سيخفف عدم اعتناقه الدين الإسلامي من حب الجماهير في العالم لذلك المشاكس الذي اعتبره المخرج العالمي الشهير أمير كوستوريكا، في فيلمه الوثائقي "مارادونا لكوستوريكا"، بأنه ثائر نبيل؟

لم ينقص إسلام محمد علي كلاي من قوة أمريكا، ولا زاد من قوة بلداننا

يحق لنا أن نفترض ونسأل طالما أن هنالك من يفترض دائمًا العكس، فقد أشيعت منذ مدة ليست بالطويلة عن النجم الكروي رغبته في اعتناق الإسلام بعد أن تعاقد مع "نادي الوصل" الإماراتي، وأنه التقى بداعية إسلامي عدة مرات، وأبدى له الرغبة في اعتناق الإسلام، كما قالت عدة جهات خليجية.

اقرأ/ي أيضًا: من جعل الغش ثقافة عامة في الجزائر؟

بينما تدور في كواليس سياسة العالم كرات الغولف نحو فجوات البلدان المأزومة، وبينما تتطاير الرِّيَش بين مضارب السياسين حاملة معها تطلعات الكثير من المقهورين، وبينما تشتعل ساحات البطولات عالميًا وفي المجالات كافة لتصدر للبشرية نجومًا وأبطالًا وأيقونات، وبينما يموت نجوم ويتألق نجوم، يبقى الكثيرون منا رهناء لأسئلة لن تغني عنا شيئًا في واقعنا المأساوي، فلا إسلام محمد علي أنقص من قوة أمريكا، ولا زاد من قوة بلداننا، ولا بقاء مارادونا على دينه سينقص من قوتنا أو يزيدها.

هي مناسبة إذا للترحم على أبطال صنعوا بطولاتهم بعرق الجبين وقوة الساعد، وبالعزيمة التي تصر على التحدي والدفاع عن المبادئ قولًا وفعلًا، وبرُقي، دون التبخيس من قدر الآخر المختلف، هذا هو الدرس الأكبر الذي يجب أن نراه في كل جولة من جولات الملاكمة التي كان يخوضها المسلم محمد علي، وفي كلة ركلة كرة ساحرة كان يقوم بها مارادونا صاحب "يد الله" و"قبلة الشيطان".

اقرأ/ي أيضًا:

لمَ علينا الرحيل من لبنان؟

فهم الاستراتيجية الصينية عن طريق ثقافتها