22-سبتمبر-2016

لاجئون يصلون ساحل لامبيدوزا (اريس ماسين/أ.ف.ب)

(1)
لم يعد للموت جلال أو رهبة، أصبح كالصداع كالإنفلونزا، أصبح كالخل رخيص ويذيب الكبد من ورائه. قصص اللجوء التي تفطر القلب، وقصص المخيمات، وقصص الذبح على الشرائع السماوية والتفجير يسبقه بسملة يُذكر فيها اسم الرحيم مجازًا، كأي مفارقة عبثية في المشهد العبثي الكبير.

مركب صغير لا يتسع لحمل مائة شخص فيركبه المئات، ليلوذوا فرارًا بأنفسهم من أتون الموت الكبير اليومي في مصر، حيث الجوع حرفيًا ينهش البطون الخاوية كأنما هو عزرائيل يرتدي قفازات يمارس بها طقوس ما قبل الاحتضار.

في صفوف متراصة يرقد الناجون وقد أخفوا وجوههم من الكاميرات التي تتطفل على خيباتهم وذلهم

في صفوف متراصة يرقد الناجون وقد أخفوا وجوههم من الكاميرات التي تتطفل على خيباتهم والذل. الناجون في سرائرهم مكبلين بالقيود لأنهم مقبوض عليهم "عادوا أحياء" إلى الجحيم والراقدين عليه باسم التاج. السماء لا تتدخل. والبحر يبتلع بقية الجثث ويلفظ بعضها على الشاطئ.

(2)
يترجل العجل السمين بصعوبة من سيارة النقل التي بقي واقفًا عليها ساعات طويلة، وحين تقف السيارة لينتظم في صفوف العجول الأخرى التي ستذبح في طقس العيد، يترجل وحده فيثير لغط وحفيظة المستقبلين له أمام محل الجزارة في منطقة "الوايلي" بمصر. يسحب الجزار ساطوره متحفزًا، يركض العجل السمين فيركض أربعة وراءه، يريد أن ينجو بحياته لربما رأى رفيقًا له يُذبح وتُشق رأسه وتُقطع أذناه، لكن خاطرًا مر برأس حامل الساطور جعله يعيق حركة العجل النشيطة بأن قطع أحد أرجله. فخارت قواه، فأرقدوه على جنبه وعالجه الجزار بساطوره قبل أن يموت فيصبح أكله محرمًا!

اقرأ/ي أيضًا: مصر 2016.. السلاح قبل الخبز أحيانًا

(3)
أعربت نادية عبده عن نائب محافظ البحيرة -التي خرج منها المركب- عن ارتفاع عدد ضحايا مركب رشيد المنكوبة إلى 42 قتيلًا من الرجال والسيدات وطفل واحد، و7 مصابين، فضلًا عن إنقاذ أكثر من 160 شخصًا. وأعربت النائبة عن أسفها بقولها: " ثقوا في بلدكم لأنها جميلة، ولن تجدوا أفضل منها، ومصر يوجد بها فرص عمل أفضل من أن تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة".

(4)
انتظرنا ساعة وربع في فرع البنك لأن شبكة الإنترنت التي تصل الفروع ببعضها معطلة، يعدنا الموظف بلهجة حاسمة أن "السيستم" سوف يعود في خلال ساعة على الأكثر ويطلب منا نحن العملاء الصبورين منذ ساعة أن نتحلى بمزيد من الصبر. أفقد صبري بسرعة في هذه المواقف، وبدلًا من أن يعلو صوتي حملت ابنتي وحقيبتي وركبت أول تاكسي إلى فرع آخر.

اقرأ/ي أيضًا: هل تهرب شركات الطيران من مطار القاهرة؟

سائق التاكسي لاحظ أني أزفر وأنفخ فسألني ماذا هنالك -من العادي في مصر أن تفتح حوارًا طويلًا مع سائق التاكسي- فحكيت له عن التسيب والإهمال في فرع البنك. ازدرد الرجل ريقه وقال لي: سافرت إلى إيطاليا على مركب غير شرعي ورست السفينة على مكان مهجور بحثنا فيه عن مأوى فلم نجد سوى سور بيت يبدو أنه كان يُبنى ثم توقفت أعمال البناء فيه، وجدنا رجل على حالتنا المزرية من البلل والجوع، رثى لحالنا ثم غاب وعاد يحمل طعامًا وأغطية ثم نصحنا أن نغادر المكان لأنه ليس آمنا. سألته: هل أقمت هناك؟ فقال: سبع سنوات عملت فيها سائقًا. ولا أقول لك كنتُ سعيدًا لكني كنت آخذ حقي، أعمل فآخذ حقي. هذا كل ما كنت أريده. فسألته وماذا أعادك إلى هنا؟ فقال: أمي ست ضريرة وليس لها غيري وقد ماتت عنها أختها التي ترعاها ولم يعد لها أحد سواي.

(5)
يقول أحد الصحفيين في شهادته عن رحلات الموت "يبدأ الموضوع بسمسار يأتي بمجموعات صغيرة من المهاجرين من المحافظات، فضلًا عن جنسيات أخرى كالسوريين والصوماليين، فيسلمهم إلى سمسار آخر في مطروح، ثم يمكثون هناك في بيوت المهربين حتى يتم تجميع نحو 200 شخص أو أكثر، ثم يتم نقلهم عبر سيارات دفع رباعي في الصحراء".

تبلغ تكلفة الرحلة حوالي 5 آلاف جنيهًا مصريًا لكن السعر ارتفع أخيرًا إلى 8 آلاف جنيه بعد زيادة عدد المهاجرين السوريين الذين يدفعون ما بين 800 و1000 دولار تقريبًا. وقد أصبحت محافظات الصعيد أكثر المحافظات التي يأتي منها الشباب الذين يريدون الهجرة. فمنهم من يريد أن يصل إلى ليبيا فقط للعمل هناك ومنهم من يكون هدفه العبور إلى أوروبا.

أتذكر موضوعات الهجرة النبوية في الكتب، كان المهاجرون وقتها يقفتون أثر نبي، ويعرفون عدوهم، وكانت أرض الله واسعة وكان هناك ملك صالح في الحبشة، كانوا وقد أخرجوا من ديارهم يعرفون أنهم في سبيل الله.

لكن الذين يخرجون اليوم لا يقتفون أثر النبي ولا أثر إله، ولا يعرفون تحديدًا من هو عدوهم، وهم بين الفيزا وبين أطنان من الأوراق الرسمية والحدود والجغرافيا لا يعرفون هل سيُمنحون في النهاية حق اللجوء أو أنهم سيتركون في عراء المخيمات بلا حمامات أو طعام أو رعاية صحية. أما الملك العادل فتلك أسطورة أصبح التكلم فيها ضربًا من ضروب التسلية وجلبًا للضحك والمسخرة!

اقرأ/ي أيضًا:
ماذا لو انتقد المصريون أميرات ديزني؟
العروس المصرية تتنازل عن "الشبكة"؟