21-أغسطس-2016

جراهام جرين

هذه القصة للكاتب الإنجليزي غراهام غرين (1904-1991)، صاحب روايات: "قطار إسطنبول" و"الطرق غير القانونية" و"القوة والمجد".


استيقط بيتر مورتْن ليستقبل أول الضوء. كان المطر ينقر الزجاج. إنه الخامس من يناير.
نظر إلى السرير الآخر عبر الطاولة التي ذابت فوقها شمعةٌ مكوِّنةً بقعةً أشبه ببركة ماءٍ صغيرة. كان فرَنْسِس مورتْن لا يزال نائمًا، فاستلقى بيتر ثانيةً وعيناه على أخيه. عندما ينظر إلى أخيه كان يروق له تخيُّل أنه ينظر إلى نفسه، الشعر ذاته، والعينين ذاتيهما، والشفتين ذاتيهما، وخط الوجنة ذاته. لكن الفكرة فقدت سحرها وعاد العقل يفكِّر في الحدث الذي أضفى على اليوم أهميّتَه. إنه الخامس من يناير. لا يكاد يصدّق أن عامًا قد مضى منذ أن أقامت السيدة هْن-فالكن آخر حفلة للأطفال. 

انقلب فرَنْسِس فجأةً على ظهره وألقى ذراعه على وجهه حاجبًا فمه. بدأ قلب بيتر يخفق خفقانًا سريعًا، ليس فرَحًا، وإنما قلَقًا. انتصب جالسًا ونادى عبر الطاولة: "استيقظ". اهتزّ كتفا فرَنْسِس ولوّح بقبضته في الهواء، لكن عينيه بقيتا مغمضتين. تراءى لبيتر مورتْن أن الغرفة تُظلِم، وتولّد لديه انطباع بوجود طائر ضخم منقضّ. صاح مرةً أخرى: "استيقظ"، وكان هناك مرة أخرى ضوء فضي وضربات المطر الخفيفة على النافذة. 

فرك فرَنْسِس عينيه. سأل: "هل صرختَ؟"
قال بيتر: "لقد رأيتَ حلمًا سيئًا". كانت التجربة قد علّمته إلى أي حدّ يعكس عقلُ أحدهما عقلَ الآخر. لكنه كان هو الأكبر سنًّا بدقائق معدودة، كانت تلك الفسحة الإضافية الوجيزة من الضوء عندما كان أخوه لا يزال يصارع الألم والظلام، قد منحته فرصةَ الاعتماد على الذات وغريزةَ الحماية تجاه الآخر الذي كان يخاف أشياء كثيرة.
قال فرَنْسِس: "حلمتُ أنني ميّت".
قال بيتر: "كيف كان الأمر؟"
قال فرنْسِس: "لا أستطيع التذكّر".
"لقد حلمتَ بطائر كبير".
"هل حلمتُ بذلك؟"

استلقى الاثنان بصمت على سريريهما مواجهًا أحدهما الآخر. العينان الخضراوان ذاتهما، والأنف ذو الأرنبة المائلة ذاته، والشفتان المزمومتان ذاتهما، والتشكيل الناقص ذاته للذقن. الخامس من يناير، فكّر بيتر ثانيةً، وعقله يتحوّل بكسل من صورة الكعك إلى الجوائز التي قد يربحانها في سباق البيضة والملعقة، ولعبة إخراج التفاح من أحواض الماء من دون استخدام الأيدي، ولعبة عصابة العينين.
قال فرَنْسِس فجأةً: "لا أريد الذهاب. أظن أن جويس وميْبل وارِن ستكونان هناك". كان يبغض فكرة مشاركة الحفلة هاتين الاثنتين. كانتا تكبرانه، جويس في الحادية عشرة وميْبل وارِن في الثالثة عشرة. تتدلّى ضفائرهما الطويلة بغطرسة وهما تمشيان بخُطى واسعة مسترجلة. بعث جنسهما فيه إحساسًا بالخزي عندما حدجتاه من تحت أجفانهما الهازئة وهو يمسك البيضة على نحوٍ أخرق في لعبة العام الماضي. أشاح بوجهه بعيدًا عن بيتر واستحالت وجنتاه قرمزيتين.

سأل بيتر: "ما الخطب؟"
"أوه، لا شيء. أعتقد أنني لستُ على ما يرام. لقد أصابتني نزلة برد. لا ينبغي أن أذهب إلى الحفلة".
تحيّر بيتر: "ولكن يا فرَنْسِس، هل هي نزلة برد سيئة؟"
"ستكون سيئة إذا ذهبت إلى الحفلة. ربما سأموت".
"إذن يجب ألا تذهب"، قال بيتر وهو على استعداد لأن يحلّ جميع الصعاب بعبارة واحدة بسيطة، وفرَنْسِس الذي ترك أعصابه تسترخي كان على استعداد لأن يترك كل شيء لبيتر. لكنه كان ممتنًّا لأنه لم يُدِرْ وجهه ناحية أخيه. ما زالت وجنتاه تحملان علامة ذكرى مُخزية عن لعبة الغُمَّيْضة العام الماضي في البيت المظلم، وكيف صرخ عندما وضعت ميْبل وارِن يدها على ذراعه فجأةً. لم يسمعها وهي قادمة. هكذا هُنّ الفتيات. أحذيتهن لا تطقطق أبدًا. ولا تئنّ ألواح الأرضية الخشبية تحت خطواتهن. تنسلّ الواحدة منهن مثل قطة بمخالب محشوة. 

عندما أقبلت المربية جالبةً ماءً ساخنًا استلقى فرنْسِس بهدوء تاركًا كل شيء لبيتر. قال بيتر: "أيتها المربية، أُصيب فرَنْسِس بنزلة برد".
قالت المرأة المتزمّتة الطويلة وهي تضع الفوط داخل الأوعية من دون أن تلتفت: "لن يكون هناك غسيل حتى الغد، يجب أن تعيره بعضًا من مناديلك".
قال بيتر: "ولكن يا أيتها المربية، أليس من الأفضل أن يبقى على السرير؟"
قالت المربية: "سنأخذه في نزهة لطيفة هذا الصباح، سُيبعد عنه هبوبُ الريح الجراثيم. انهضا الآن، كلاكما"، وأغلقت الباب وراءها.
قال بيتر: "أنا آسف، لِمَ لا تبقى على السرير وحسب؟ سأخبر أمي أنك مريض جدًّا ولا تستطيع النهوض". لكنّ التمرّد ضد الأقدار ليس في مقدرة فرَنْسِس. لو بقي على السرير لجاؤوا إليه وربتوا على صدره ووضعوا مقياس الحرارة في فمه وألقوا نظرة على لسانه ليكتشفوا أنه يتمارض. كان صحيحًا أنه يشعر بأنه مريض. كان ثمّة إحساس بالخواء في معدته، وكان قلبه يخفق خفقانًا متسارعًا، لكنه كان يعرف أن السبب كان الخوف فقط، الخوف من الحفلة، الخوف من جعله يختبئ بنفسه في الظلام من دون صحبة بيتر ومن دون شمعة تمنحه فسحةً مبهجة. 

قال: "لا، سأنهض"، ثم وبيأس مفاجئ قال: "لكنني لن أذهب إلى حفلة السيدة هْن-فالكن. أقسم بالكتاب المقدّس لن أذهب". والآن كل شيء سيكون على مايرام، فكّر. لن يسمح لي الربّ بأن أنكث بقسم مهيب كهذا، سوف يُريني الطريق. كان أمامه الصباح كلّه والنهار كلّه حتى الرابعة. لا داعي للقلق ما دام العشب لا يزال نضرًا بالصقيع المبكّر. يمكن أن يحدث أي شيء. قد يجرح نفسه أو يكسر ساقه أو يُصاب حقيقةً بنزلة برد سيئة، سوف يتكفّل الربّ بالأمر بطريقة أو بأخرى.
كان يحمل الكثير من الإيمان بربّه إلى حدّ أنه لم يكترث عندما قالت أمّه عند الإفطار: "سمعتُ أنك مصابٌ بنزلة برد يا فرَنْسِس"، ثم قالت أمّه بسخرية: "كنّا نودّ أن نسمع المزيد عن ذلك لو لم تكن هناك حفلة هذا المساء"، وابتسم فرَنْسِس مشدوهًا ومثبَّطًا بتجاهلها إياه.

كان يمكن لسعادته أن تطول أكثر لو لم يصادف جويس عندما خرج في نزهة ذلك الصباح. كان وحدَه مع مربيته لأن بيتر كان عليه أن ينهي بناء قفص الأرانب في مخزن الحطب. لو كان بيتر هناك ما كان ليأبه، ومع أن المربية كانت مربية بيتر أيضًا، بدا الآن وكأنها قد عُيّنت لخدمته هو فقط، لأنه لا يمكن الوثوق به وتركه يخرج للتنزّه وحيدًا. كانت جويس تكبره بعامين فقط وكانت وحدها.
تقدّمت نحوهما بخطى واسعة، وضفائرها ترفرف، رمقت فرَنْسِس بازدراء وتحدثت بتفاخر إلى المربية: "مرحبًا أيتها المربية، هل ستُحضرين فرَنْسِس للحفلة هذا المساء؟ مَيْبل وأنا سنأتي". وانطلقت مرة أخرى إلى آخر الشارع باتجاه منزل مَيْبل وارِن، واعيةً كونَها تمشي وحدها ومكتفيةً بذاتها على الطريق الطويل الفارغ.

قالت الممرضة: "يالها من فتاة لطيفة!" لكن فرَنْسِس بقي صامتًا، وأحسّ قلبه ينطّ نطًّا مرةً أخرى مدركًا أن ساعة الحفلة ستحلّ قريبًا. لم يفعل الرَّبُّ شيئًا لأجله والدقائق تطير.
تطير بسرعةٍ كبيرة ولا تترك فرصة للتخطيط لأي حيلة أو حتى لتهيئة قلبه للمحنة القادمة. تملّكه الذعر تقريبًا حينما وجد نفسه، غير مستعدّ أبدًا، واقفًا عند عتبة الباب، وياقة معطفه مرفوعة لصدّ الهواء البارد، بينما كان مصباح المربية الكهربائي يصنع أثرًا قصيرًا خلال الظلام. خلفه كانت أضواء الردهة وصوت أحد الخدم وهو يعدّ مائدة العشاء الذي سيتناوله أبوه وأمّه وحدهما. كان على وشك أن تتملّكه رغبة بالركض عائدًا إلى داخل المنزل والصياح في أمّه بأنه لن يذهب إلى الحفلة، بأنه لا يجرؤ على الذهاب. لن يتمكنوا من جعله يذهب. يكاد يسمع نفسه يقول هذه الكلمات الأخيرة كاسرًا للأبد حاجز التجاهل الذي أنقذ عقله من معرفة والديه بسرّه: "إنني أخاف الذهاب، لن أذهب. لا أجرؤ على الذهاب، سيجعلونني أختبئ في الظلام وأنا أخاف الظلام. سأصرخ وأصرخ وأصرخ".

كان يستطيع رؤية تعبير الدهشة على وجه أمّه، ثم الثقة الباردة في الردّ الحاسم الصادر من شخص كبير: "لا تكن سخيفًا. يجب أن تذهب. لقد قبلنا دعوة السيدة هْن- فالكن".
لكن لا يمكنهم جعله يذهب، عرف ذلك وهو يقف متردّدًا عند عتبة الباب بينما تقدّمت المربية باتجاه البوابة ساحقة بقدميها الصقيع الذي كان يغطي العشب. أجاب: "يمكنك أن تقولي أنني مريض، لن أذهب. أنا أخاف الظلام". وقالت أمّه: "لا تكن سخيفًا. تعرف أن لا شيء يخيف في الظلام". لكنه كان يعرف زيف تلك الحجة، يعرف كيف علّموه أيضًا أن لا شيء يخيف في الموت، وكيف كانوا يتجنّبون فكرته بخوف. لكن لا يمكنهم جعله يذهب إلى الحفلة. "سأصرخ.. سأصرخ".
"فرَنْسِس تعال هنا". سمع صوت المربية عبر الأرض المعشوشبة ذات اللون الفسفوري المعتم، ورأى الدائرة الصفراء التي رسمتها حلقة مصباحها حول الأشجار والشجيرات. صاح بيأس: "أنا قادم". لم يتمكّن من حمل نفسه على البوح بأسراره الأخيرة وإنهاء التحفّظ بينه وبين أمّه، لأنه ما زال ثمّة ملاذ أخير بتقديم التماس آخر ممكن للسيدة هْن-فالكن. عزّى نفسه بذلك وهو يتقدّم بثبات عبر الردهة، صغيرًا جدّا، نحو جسدها الضخم. كان قلبه يخفق خفقانًا متقطّعًا، لكنّه تمكّن الآن من السيطرة على صوته وهو يقول بنبرة دقيقة: "مساء الخير يا سيدة هْن-فالكن. كان لطفًا كبيرًا منك أن دعوتني إلى حفلتك". بوجهه المتوتر المرفوع باتجاه منحنى صدرها، وبخطابه المدروس المهذّب، بدا مثل عجوز ذابل. كتوأم، كان طفلا وحيدًا من نواحٍ عدّة. أن يخاطب بيتر كان يعني أن يخاطب صورته في مرآة، صورةً محرّفةً بعض الشيء بصدعٍ في الزجاج بحيث تعكس شبهًا به بما هو عليه أقلّ مما يتمنى أن يكون عليه، ما سيكون عليه من دون خوفه اللامنطقي من الظلام ومن وقْع خُطى الغرباء وتحليق الخفافيش في الحدائق المجلّلة بالظلام.

"طفلٌ لطيف"، قالت السيدة هْن-فالكن بذهْن شارد وهي تلوّح بذراعيها للأطفال وكأنهم سرب دجاج قبل أن تدفعهم في دوّامة قائمة برنامجها الترفيهي: سباق البيضة والملعقة، سباق الجري بثلاثة أرجل، لعبة إخراج التفاح من أحواض الماء من دون استخدام الأيدي، ألعابٌ لا تمثّل إلا خزيًا لفرَنْسِس. وفي الفسحات المتكررة بين اللعبة والأخرى عندما لم يكن يُطلب منه شيء وباستطاعته أن يقف وحيدًا في الزوايا بعيدًا قدر المستطاع عن تحديقة ميْبل وارِن المزدرية، تمكّن من التخطيط لكيفية تجنّب رعبه الوشيك من الظلام. عرف أنه لم يكن هناك من شيء يخافه إلى ما بعد وقت الشاي، ولم يكن واعيًا تمامًا بقرب وقوع ما يخافه إلا عندما جلس وغمرته بركة من وهج أصفر أخذ ينسكب من الشموع العشر الواقفة على كعكة عيد ميلاد السيدة هْن-فالكن. سمع صوت جويس العالي عبر الطاولة: "بعد الشاي سنلعب لعبة الغُمَّيْضة في الظلام".
قال بيتر وهو يطالع وجه فرَنْسِس المضطرب: "أوه لا، لا تدعونا نفعل. إننا نلعب تلك اللعبة كلّ عام".
صاحت ميْبل وارِن: "لكنها في البرنامج. رأيت ذلك بنفسي. نظرت من فوق كتف السيدة هْن-فالكن. شاي الخامسة، من السادسة إلا ربع إلى السادسة والنصف، لعبة الغُمَّيْضة في الظلام. كلّه مكتوب في البرنامج".

لم يجادل بيتر، فإذا كانت لعبة الغُمَّيْضة مُدرجةً ضمن برنامج السيدة هْن-فالكن، فإن ما سيقوله لن يغيّر من الأمر شيئًا. طلب قطعة أخرى من كعكة عيد الميلاد ورشف شايَه ببطء. ربما سيكون ممكنًا تأخير اللعبة ربع ساعة تمنح فرَنْسِس دقائق إضافية معدودة على الأقل ليضع خطة، ولكن بيتر فشل حتى في ذلك، لأن الأطفال كانوا قد غادروا مائدة الشاي بأعداد ثنائية وثلاثية. كان ذلك فشله الثالث، ومرةً أخرى رأى طائرًا ضخمًا يغطي وجه أخيه بجناحيه. لكنه وبّخ نفسه بصمت على وقاحته وأنهى كعكته مشجّعًا نفسه بتذكّر تلك اللازمة التي يكرّرها الكبار: "لا شيء يخيف في الظلام". عندما كانا آخر من غادر المائدة، تقدّم الأخوان معًا إلى الردهة ليصادفا عيني السيدة هْن-فالكن المتفقّدتين والمتلهّفتين.
قالت: "والآن، سنلعب الغُمَّيْضة في الظلام".

راقب بيتر أخاه ورأى شفتيه مزمومتين. كان يعلم أن فرَنْسِس كان يخشى هذه اللحظة منذ بداية الحفلة، وأنه حاول مجابهتها بشجاعة لكنه كفّ عن المحاولة. لا بدّ أنه تضرّع للرَّبّ أن يمنحه بعض المكر والدهاء للتملّص من هذه اللعبة التي رحّب بها جميع الأطفال الآخرين بصيحات الإثارة: "هيّا لنلعبها. يجب أن نختار الأدوار. هل هناك أجزاء في البيت خارج نطاق اللعبة؟ أين سيكون الهدف؟".
قال فرَنْسِس مورتْن مقتربًا من السيدة هْن-فالكن وعيناه تركزّان بلا تردّد على صدرها الضخم: "أظن أنه لن يكون مُجديًا أن ألعب. ستأتي مربيتي قريبًا جدًّا".
"أوه، ولكن تستطيع مربيتك أن تنتظر يا فرَنْسِس"، قالت السيدة هْن-فالكن بينما كانت تصفق بيديها داعيةً بعض الأطفال الذين كانوا يصعدون السلالم إلى الطوابق العلوية إلى الوقوف بجانبها. "أمّك لن تنزعج أبدًا".

تلك كانت حدود مكر فرَنْسِس. لقد رفض تصديق أن عذرًا مدبّرا تدبيرًا جيّدًا يفشل هكذا. كان كل ما استطاع قوله بالنبرة الدقيقة التي يكرهها الأطفال الآخرون معتقدين أنها رمزٌ للغرور: "أظن أنه من الأفضل ألا ألعب". وقف بلا حراك محتفظًا بملامح هادئة مع أنه كان خائفًا. لكنّ معرفة رعبه، أو انعكاس الرعب ذاته كان قد وصل إلى دماغ أخيه. لحظةً كان بمقدور بيتر مورتْن أن يصيح بصوت عال خوفًا من انطفاء الأضواء الساطعة ليُترَك وحيدًا في جزيرة من الظلام يحيط بها وقعٌ رقيق لخطوات غريبة. ثم تذكّر أن ذلك الخوف ليس خوفه، وإنما خوف أخيه. قال باندفاع للسيدة هْن-فالكن: "أرجوكِ، لا أعتقد أن على فرَنْسِس أن يلعب. الظلام يجعله يقفز". كانت تلك الكلمات الخطأ. شرع ستة أطفال يغنون وهم يوجهون نظرات معذِّبة إلى فرَنْسِس مورتْن: "كَوردي كَوردي كَستَرْد".
قال فرَنْسِس من دون أن ينظر إلى أخيه: "بالطبع سألعب. لست خائفًا، اعتقدت فقط..." لكن معذّبيه كانوا قد نسوه. تزاحم الأطفال حول السيدة هْن-فالكن، وأصواتهم الزاعقة تنهال عليها بالأسئلة والاقتراحات.
"نعم، أيّ مكان في البيت. سنطفئ جميع الأضواء. نعم، يمكنكم الاختباء في الخزانة. يجب أن تبقوا مختبئين أطول وقت ممكن. لا يوجد هناك هدف". 

وقف بيتر بعيدًا، خجِلًا من طريقته الخرقاء في محاولته مساعدة أخيه. يستطيع الآن أن يشعر باستياء فرَنْسِس من بطولته يزحف في كل زاوية من زوايا دماغه. صعد بعض الأطفال إلى الطابق العلوي وأُطفئت الأضواء هناك. خيّم الظلام كجناحي خفاش واستقرّ على الأرض. بدأ آخرون بإطفاء الأضواء في آخر الردهة حتى تجمّع الأطفال كلّهم في وسط الضوء المشعّ من الثريّا منتظرين إطفاءها أيضا، في حين راحت الخفافيش تجثم حولهم بأجنحتها السوداء.
قالت فتاة طويلة: "ستكون وفرَنْسِس في الطرف الذي يؤدي دور الاختباء"، ثم انطفأ الضوء. تزحزح السجاد تحت قدميه من صفير وقع الأقدام التي بدت كأحجار صغيرة وباردة من أحجار لعبة الداما وهي تدبّ مبتعدة نحو الزوايا.
تعجّب: "أين فرَنْسِس؟ لو أنني صحبته لكان خوفه من هذه الأصوات أقلّ". كانت هذه الأصوات سبب الصمت: صرير لوح مفكوك، الإغلاق الحذر لباب خزانة، صوت كالأنين يصدر عن إصبع يمسح خشبًا مصقولًا.

وقف بيتر وسط الأرضية المهجورة المظلمة، لم يكن ينصت، وإنما كان ينتظر فكرة مكان وجود أخيه لتدخل إلى دماغه. لكن فرَنْسِس رفض وأصابعه في أذنيه، عيناه مغمضتان بلا جدوى، عقله فاقد الحس بأية أفكار، وكان ثمة فقط إحساس بالتوتر يشقّ فراغ الظلمة. ثم صاح صوت: "قادم"، وكأن رباطة جأش أخيه تحطّمت بالصيحة المفاجئة، قفز بيتر مورتْن خائفًا. لكنّ ذلك لم يكن خوفه. فما كان داخل أخيه ذعرٌ حارق، كان عنده عاطفة غيريّة تركت عقله سليمًا. "لو كنتُ فرَنْسِس، أين كنتُ سأختبئ؟" ولأنه كان -إن لم يكن فرَنْسِس نفسه- مرآة أخيه على الأقل، جاءت الإجابة فورًا. "بين خزانة الكتب المصنوعة من خشب البلّوط، في يسار باب غرفة المكتب، والأريكة الجلدية". قد لا تكون ثمّة لغة تخاطر بين التوأمين، فقد كانا مع بعضهما بعضًا في الرحم، ولا يمكن أن يفترقا.

مشى بيتر مورتْن بحذر باتجاه مكان اختباء فرَنْسِس. بين الفينة والأخرى يمكن سماع طقطقة لوح خشبي، ولأنه كان يخشى أن تفاجئه واحدة من الفتيات الباحثات في الظلام، انحنى وفكّ أربطة حذائه. وقعت رقعة من الأربطة على الأرض فجذب الصوت المعدني مجموعة من الأقدام الحذرة تجاهه. لكنه عند هذا الحد كان قد خلع حذاءه وبقي بجواربه، وكان سيضحك في داخله على المطاردة لولا أن جلبة تعثّر أحدهم بحذائه المتروك جعلت قلبه يثب. لا مزيد من الألواح الخشبية تفضح تقدّم بيتر مورتْن.
تمكّن بارتدائه الجوربين فقط من التحرّك ناحية هدفه بصمت ومن دون ارتكاب أي خطأ. أخبرته غريزته أنه بالقرب من الجدار ومدّ يده ووضع أصابعه على وجه أخيه.

لم يصرخ فرَنْسِس. لكن خفقة قلب بيتر كشفت له حجم الرعب الذي يعانيه أخوه. "لا بأس"، همس متحسّسًا الجسد الرابض حتى أمسك بيد أخيه المطبقة قبضتها بإحكام. "هذا أنا فقط. سأبقى معك"، وممسكًا أخاه بقوة سمع همسات تنثال بسبب الصوت الذي أثاره. لمست يدٌ خزانة الكتب القريبة من رأس بيتر، وكان يعي كيف استمر خوف فرَنْسِس حتى بوجوده. تمنّى لو كان الخوف أقلّ حدّة وأكثر تحمّلًا، لكنه استمر. كان يعلم أن ذلك الخوف كان خوف أخيه وليس خوفه هو. كان الظلام بالنسبة إليه مجرد غياب للضوء، ولمسة اليد هي لمسة طفل مألوف. انتظرا بصبر أن يجدهما الآخرون.

لم يتكلم ثانيةً، لأن بينه وبين فرَنْسِس تواصلًا خاصًّا. بتشابك أيديهما كانت الأفكار تتدفق بسرعة أكبر من قدرة شفتيهما على التعبير بالكلمات. يستطيع أن يَخبر عملية تطور عاطفة أخيه بأكملها، من قفزة الذعر جرّاء اللمس غير المتوقّع إلى النبض الخائف المتواصل الذي استمر بلا انقطاع وكأنه دقات قلب منتظمة. فكّر بيتر مورتْن بكثافة: "أنا هنا. لا تخف. سوف تُضاء الأنوار قريبًا. لا شيء يخيف في تلك الطقطقة والحركة. إنها فقط جويس، فقط ميْبل وارِن". راح يُمطر أخاه المبتئس بوابل من الأفكار المطمئِنة، لكنه كان يدرك أن الخوف ما زال مستمرًا. "لقد بدأتا تتهامسان. إنهما متعبتان من البحث عنّا. سوف تُضاء الأنوار قريبًا. سوف نفوز. لا تخف. هناك أحدٌ ما على السلّم. أظن أنها السيدة هْن-فالكن. اسمع. إنهم يبحثون عن الأنوار". أقدام تتحرك على السجاد، أيدٍ تمشط الجدران، ستارة تُسحب، تكتكة مقبض، باب خزانة يُفتح. في الخزانة أعلى رأسيهما تحرّك كتاب بسبب لمسة أحدهم. "إنها جويس فقط، ميْبل وارِن فقط، السيدة هْن-فالكن فقط"، كانت تلك أفكار مطمئِنة تتزايد تدريجيّا قبل أن تسطع أضواء الثريا وتُزهر مثل شجرة فاكهة.

ارتفعت أصوات الأطفال بصخب في الضوء المشعّ: "أين بيتر؟"، "هل بحثتم في الأعلى؟"، "أين فرَنْسِس؟"، لكنّ صرخة السيدة هْن-فالكن أسكتتهم مرة أخرى. لكنها ليست أولّ من لاحظ سكون فرَنْسِس مورتْن عندما سقط بمحاذاة الجدار بلمسة من يد أخيه. استمر بيتر في الإمساك بالأصابع المُحكمة القبضة بأسى قاحل وحائر. ليس لأن أخاه قد مات وحسب، ولكنّ عقله الأصغر من أن يستوعب المفارقة بأكملها كان يتعجّب بشفقة غامضة على الذات، كيف استمر قلب أخيه فرَنْسِس ينبض خوفًا، وقد أصبح الآن في المكان الذي طالما أُخبِر عنه أنه ما من رعب فيه ولا ظلام. 

اقرأ/ي أيضًا:

ثلاثونَ رصاصةً من عيارِ الدمع

من ذبحني أمام عيني