08-نوفمبر-2015

غرافيتي لـ بانسكي

ماركس نفسه، مُلهم الثورات والانتفاضات ومحفز الغضب في مواجهة الحزن، قد وقع في فخ الحب، وأي حب؟ إنه حب امرأة برجوازية تنتمي إلى معسكر الأعداء، بل وتورَّط في الانضمام إلى مؤسسة الزواج؛ تلك المؤسسة الأنانية عدوة المشاع، وكتب ذات مرَّة لحبيبته يقول: "كل هذا مُصمَّم ليجعلنا صغارًا خائري القوى كثيري الأنين. هو الحب، لكن ليس على طريقة فيورباخ، وليس من أجل الاستمرار في هذه الحياة عن طريق تلك التغيرات الحيوية، ولا من أجل نساء هذا العالم، واللاتي يتحلى بعضهن بالتأكيد بالكثير من الجمال. لكن، أنّى لي أن أجد وجهًا كل خواصه، كل قسماته، هو عبارة عن تذكار لأجمل وأعظم لحظات حياتي؟ حتى آلامي المبرحة اللامنتهية، وخسائر حياتي الفادحة التي لا تعوَّض، أراها في محيّاك الجميل. إني أقبِّل الألم قبلة الوداع؛ إذا قبّلتك".

الحداثة ستعد بأن تجعل الحب للجميع وستجعل من كل مواطن شاعرًا، الكل سينخرط في الحب

ليس مدحًا في الحب كقيمة مطلقة تتجاوز التاريخ، وليس هربًا من السؤال الرئيس: أيهما كان الأب الشرعي للمعاناة وصار إناءً يتخذ مضمون التاريخ شكله، وحملت من بعده كل الأوجاع خصائصه الوراثية، أهو نشوء الملكية الخاصية، أم هو الحب؟ فإذا كنت عاشقًا حقًا فستميل إلى أن تكون غيورًا، وإذا كنت مولعًا وغارقًا في الحب، فعندها لا تحب أن يكون محبوبك عاشقًا لشخص آخر، إذن أنت غيور، ومن ثمَّ لا مجال لحلم مشاعي إيثاري ولو على سبيل الأُمنية المستحيلة، وكل السُبُل تبدأ بالحب إذن لتنتهي بالعبودية والإقطاع والحداثة الرأسمالية وفي الأخير الاحتكارات التي صاحبها زعمٌ بنهاية الطبقات، وأن هذه الطبقات قد تركزت في طبقة برجوازية صغيرة مبتذلة كما تنبأ نيتشه؛ ستسلِّم بدورها آخر بندقية - أعلنُ ذات يوم أن - طلقتها الأولى هي إيذان بحرب لن تنتهي ضد الطبقية.

ليس هذا ولا ذاك وإنما هو اعتراف بحقيقة أن أقسى الراديكاليين استطاعوا أن يقوموا بانقلاب ناجح ضد هيجل ومثاليته، لكن الحب قد دهمهم ولم يستطيعوا أن ينقلبوا عليه ويزدروه ولا أن يحلموا بتثقيف العمال ضده ولا بدكتاتورية أغلبية تعنفه وتقسو عليه وتمحيه مع بقية آثار الملكية الخاصة والغيرة وما تسميه البرجوازية بالحظ.

إن عصر ما بعد الثورة الصناعية؛ عصر التصورات الراديكالية والنقد القاسي لكل شيء، كان مُقدرًا للمحبين القدامى، ولم يخضعهم للمسائلة العنيفة، على العكس، فقد جعل من نفسه امتدادًا لأحلامهم غير المحققة. وعدت الحداثة الحب بأن تتبناه وتفتح له بابًا جديدًا في عالمها الجديد، وقفت تعد وتقول: لن يكون العشاق المولعون كاتبوا الشعر كما كانوا قبل الحداثة؛ معدودين ومشهورين كالأنبياء والأبطال نظرًا لندرتهم، الحداثة ستعد بأن تجعل الحب للجميع وستجعل من كل مواطن شاعرًا، الكل سينخرط في الحب، لن تعد رفاهية الحب والاشتياق والسهر والصمت والتنقلات الحدية بين الرغبة في الموت والرغبة في الحياة رفاهية محتكرة لمن يملكون فائض الوقت بعد الآن، ستبدأ اللعبة وسيلعب الجميع، لكن على الجميع أن يعرف أن الوعد سيكون وعدًا بإمكانية الأحلام لا بتحقيقها.

لماذا إذن نشعر بالردة الآن أكثر من أي وقت مضى؟ يلاحظ الفيلسوف السلوفيني سيلافوي جيجك هذه الردة بشدة، لم يعد أحد يسمح لنفسه بسهولة بالوقوع في الحب، لم يعد أحد قادر بسهولة على تلك المغامرة الشاقة، التي كانت اعتيادية منذ بزوغ الحداثة وحتى أقل من نصف قرن مضى، لم تعد القلوب قادرة على الأحلام الخطيرة والتحولات الضخمة على كل حال، صارت حالات الردة عن هذا النمط من الوقوع في الحب هي الحالات السائدة، وعاد الناس يختارون شركاءهم في الحياة والجنس على طرق شبيهة بطريقة أسلافهم الذين لم يلحقوا بالثورة الصناعية وبالرسملة.

لم يعد أحد يسمح لنفسه بسهولة بالوقوع في الحب، لم يعد أحد قادر بسهولة على تلك المغامرة الشاقة

صار الناس يميلون أكثر وأكثر إلى أن يقولوا: "سنحب لكن بدون هذه التحولات الدراماتيكية وهذا الوقوع الخطير في الحب، سنحب بعقولنا هذه المرة ولن نقع مرة أخرى في فخ الوقوع، باختصار سنشتري قدرًا ضئيلًا من الحياة هذه المرة حتى لا ندفع ثمنًا باهظًا، لن نسمح بديون المشاعر مرة أخرى، سنتناول السكر بدون سعرات حرارية، وسنشرب الجعة بدون كحول".

الحقيقة أن تلك الردة لم تكن ردة عن الحب فقط؛ إنها ردة عن الوقوع في الحياة، حملها البرجوازيون الصغار متوسطو القدرات الذين تنبأ بهم "نيتشة" على عاتقهم، يقولون في كل حركاتهم وسكناتهم: "لن نقع، لكن سندعي الوقوع، وسنظهر أن علاقاتنا المحايدة هي علاقات حب ما دام ذلك سيسهم في صعودنا الاجتماعي"، وسيمجدون الطقوس الروحية التي ستفصلهم عن صخب العالم، ليس من أجل أن يتعرفوا على ذواتهم حقًا وإنما من أجل العودة مرة أخرى وبشكل أقوى للسوق، سيحملون ذلك على عاتقهم مع مهمة إعلان نهاية الصراع الطبقي، وأنه لا مجال للنضال من أجل الأحلام الكبيرة، يقتصر النضال من الآن وصاعدًا لا ضد الاحتكارات المعولمة ولا ضد الفلسفات المثالية، وإنما على قضايا البيئة –على أهميتها- وحقوق المثليين، حتى الشعر سيصير متحدثًا عما هو يومي وعما هو عادي وبحياد شديد وبوصف لا يتخلله أية مشاعر لأنه لم تعد توجد قضايا كبرى في هذا العالم! نعم نحن في نظر هؤلاء البرجوازيين الصغار لا نواجه أية قضايا كبيرة وعيونهم المبتذلة تنظر إلى الحياة فتراها بلونها حياة مبتذلة لا تستحق الوقوع فيها.

اقرأ/ي أيضًا:

مَن يُنظم انهيار السيسي؟

لا يموت حق وراءه القمم العربية