25-يونيو-2016

القاهرة في الذكرى الأولى لمقتلة رابعة (الأناضول)

يخبرنا التاريخ وعلماء الاجتماع السياسي أن نهايات عهود الحكم، طويلة كانت أم قصيرة، التي تقترن بالاستبداد، كثيرًا ما تشهد وقائع غريبة تتسم بالعبث تارة، وبالفوضى الشريرة تارة أخرى، إذ تترهّل السلطة وتتيّبس مفاصلها وبالتالي تصيب المجتمع حالة عدمية معقدة هي مزيج من أمراض اليأس والاحتقان والتوتر وضيق الآفاق والصدور، فتنتشر الأمراض الاجتماعية بشكل وبائي كما كان يحدث في القرون الوسطى حين كانت تضرب أوبئة الكوليرا والطاعون بلادًا بأسرها وتبيد حضارات كاملة.

اقرأ/ي أيضًا: الصحافة في عهد "عبده هيصة"

يحاول نظام السيسي السير على نهج سلفه حسني مبارك بإقامة علاقات دافئة مع الكفيل الخليجي

ويكاد هذا التشخيص أن ينطبق على الحالة المصرية، فبعد ثلاثين عامًا من استبداد "جمهورية الموظفين" وأعوام تالية في محراب العسكر، وفي ظل ضبابية الحاضر والمستقبل، فقد ظهرت على المجتمع المصري سلسلة أعراض مرضية وبثور قبيحة تنبئ في مجملها بأن الوضع المتردي قد وصل إلى منتهى مداه وغايته القصوى.

من بين هذه الأعراض المشار إليها سالفًا ما هو بالغ الخطورة وينذر حقا بعواقب كارثية، كفشل الدولة في محاربة "الإرهاب"، إذ بدلاً من ذلك تأخذ في إرهاب المجتمع بطرق متنوعة، وتواتر الاحتقانات الطائفية بين المسلمين وسواهم من طوائف المجتمع الأخرى وتدخّل الدولة في بعض تلك الاحتقانات كطرف منحاز لا كباسط لسيادة القانون، وغياب الثقة في منظومة العدالة بين قطاع من المواطنين الذين لم يَسْلَموا -وذووهم- من أحكام مجانية بعضها بالإعدام، والتطرف في مظاهر الدين دون مردود حقيقي على السلوك، يقابله تعبير فج عن الإلحاد، وتطرف في الملبس بين العري الفاضح والحجاب الاحتجاجي، أو العكس ربما هو الصحيح، فضلاً عن رسوخ الفساد الإداري وتوحشه لحد اعتراف كبار المسؤولين بالعجز عن مواجهته.

وهناك أيضا أعراض تبدو أقل خطورة، لكنها تحمل بين ثناياها الكثير من الدلالات عن حقيقة واقعنا وأنفسنا. فخلال الأيام الماضية شهدت عدة مناطق في مصر وقائع مثيرة، لا تبدو للوهلة الأولى مترابطة، لكن مع إمعان النظر وقليل من التأمل يتضح الخيط الرفيع الذي يربطها جميعا، رغم اختلاف الزمان والمكان والثقافة وأبطال كل واقعة.

الواقعة الأولى من محافظة المنيا، حيث يواجه الأنبا مكاريوس أسقف المنيا ضغوطا كبيرة ليرضى بصلح عرفي في حادثة تعرية سيدة قرية الكرم. والمنيا لمن لا يعرف هي صاحبة المركز الأول في الاعتداءات الطائفية التي لحقت بالمسيحيين بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة في آب/أغسطس 2013.

تدور الأيام وتتجدد أعمال العنف الطائفية بمختلف الأشكال ومن جديد تستدعي الدولة، أو شبه الدولة على حد تعبير السيسي، الأسقف بوصفه ممثلاً للأقباط، والمحافظ والأزهر ومدير الأمن ممثلين للمسلمين، وتأخذ بالأكثرية لا القانون.

اقرأ/ي أيضًا: نم على بطنك.. أنت من "عبيد إحساناتهم"!

وبغض الطرف عن انحياز الشرطة لصالح المعتدين المسلمين والمساومات والدهاليز التي يتفنن رجال الأمن في صنعها مع رجال الدين الأقباط، فإن المحاولات الدؤوبة والمتكررة من طرف الدولة المصرية "لتسوية الأمر عٌرفيًا" تعني إقرارًا من الدولة نفسها بغياب مبدأ سيادة القانون واللجوء إلى القضاء المدني الطبيعي في التعامل مع الصراعات القبلية والطائفية، وهو المبدأ الذي يتشدّق به مسؤولو نظام السيسي ليل نهار.

وتتلخص الواقعة الثانية في أن معركة نشبت بين قريتين بالدقهلية استخدمت فيها الأسلحة النارية والبيضاء بسبب تحرش شاب بفتاة من القرية الأخرى، التي رفعت رايات الحرب وهتف شاعرها مذكرًا بأن الشرف الرفيع لن يسلم من الأذى ما لم يُرَق على جوانبه الدم.

وبعيدًا عن غرابة سلوك هذا الشاب ودلالته، فنادرًا ما كانت تحدث مثل تلك الحوادث في الريف المصري، يبدو غياب الدولة والقانون واضحين هنا، فالعبرة ليست بسيطرة الأجهزة الأمنية على الموقف، بل بعدم حدوث هذا "الموقف" بالأساس، ليس فقط لأن المجتمعات المتحضرة ودول القانون قلما تشهد وقائع تحرش، وحتى حين تحدث فإن المتضرر يلجأ للسلطات العامة وليس لأبناء "العشيرة" حتى يغيروا على العشيرة الأخرى، التي يمكن أن يكون معظم أبنائها منكفئين على رزقهم ولا ناقة لهم أو بعير في سلوك بعض سفهاء القرية، ولنتخيل معًا أحدهم عائدًا لبيته دون أن يدري بقصة "الشرف الرفيع" هذه وناله أذى من أبناء "القبيلة" الغازية.

لا تخلو الصراعات الطائفية في مصر من أصابع وخيوط توجهها أجهزة النظام الأمنية

الواقعة الثالثة من محافظة القاهرة، حيث وقعت مشاجرة بالأسلحة النارية بين ضابط شرطة وموظف من عائلة كبيرة بأحد الأحياء الشعبية القاهرية، وتطورت الأمور حين أُحرقت سيارة الضابط، وتم تبادل إطلاق الرصاص بين الطرفين. استخدم الضابط سلاحه الميري وأودى بحياة شاب لم يكن طرفًا في المشاجرة. هذا الحادث ليس بجديد على السجل الدموي للشرطة المصرية وسائر الأجهزة الأمنية، ولكنه يأتي ليعيد إلى الأذهان أسئلة معلقة حول وحوش السلطة المطلقة المعزّزة بطغيان لا يجد من يقف أمامه. فهذا الضابط القاتل والمسؤول عن بسط الأمن وتطبيق القانون هو مثال من بين أمثلة كثيرة على حالة شبه عامة لعدم احترام القانون في مصر، وغيابه، وعدم الاحتكام إليه للإتيان بالحقوق، والأخطر أن هذا النهج سيستمر.

ونصل لمحطتنا الأخيرة والأكثر إثارة، وهي طعن الحكومة المصرية على قرار محكمة ابتدائية بمصرية جزيرتي تيران وصنافير. وكما نعرف جميعا فإن مصر، أو السيسي، قد بلغ بها الكرم حدًا فائضًا عن المعتاد وقررت أن تمنح الجزيرتين الاستراتيجيتين إلى السعودية كعربون محبة بعد الإغداق السعودي على مصر، أو نظام السيسي، وتأمين وجود نظامها الجديد، الذي يحاول السير على نهج سلفه حسني مبارك بإقامة علاقات دافئة مع الكفيل الخليجي.

وفي انتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة من مهازل جديدة، يبدو واضحًا أن نظام الحكم الحالي قد قالها صريحة: "فليذهب التاريخ والقضاء والجغرافيا والمنطق إلى الجحيم".

اقرأ/ي أيضًا: 

الشذوذ والتطرف.. تبريرات إعلام الغرب واتهاماته

الثورة السورية في البازار الروسي الأمريكي