01-مارس-2016

رجال الشرطة المصرية أمام غرافيتي مناوئ لهم 2015 (Getty)

تُصدّر الدول في واجهاتها الرئيسة ما تعتقده أهم ما فيها. أهم من البشر أحيانًا. فرنسا تحبّ الكرمات، وتنتج أجود أنواع النبيذ في العالم. مصر كذلك كانت تنتج أجود أنواع القطن، القطن طويل التيلة. هكذا كانوا يخبروننا في المدارس. حتى أتى حين من الدهر، أصبحت أشهر الصناعات المصرية صناعة أمين الشرطة. جهاز شرطة لن تجد له مثيلًا في العالم. هي دولة حاتم أمين الذي صوره المبدع العبقري يوسف شاهين في فيلمه "هي فوضى".

جهاز الشرطة في مصر هو الجهاز الوحيد الذي يرتكب الأخطاء وتدافع دولة بأكملها عن أخطائه

جهاز الشرطة في مصر هو الجهاز الوحيد الذي يرتكب الأخطاء وتدبج دولة بأكملها مالها وأغلى محام فيها لتدافع عن أخطائه. تسميها الدولة في إعلامها غير المستقل أخطاء فردية. ولأن أخطاءها الفردية كثرت وتشعبت وتعددت حتى وصلت إلى ممارسات ممنهجة غير عادية، أسماها البعض "وزارة الأخطاء الفردية". يدفع الفاتورة الشعب الذي وافق بعضه على التجاوزات وباركها. 

اقرأ/ي أيضًا: السيسي.. خُطب الدكتاتور المأزومة

كنا نرى ذلك مؤلمًا ومقرفًا حتى أتى مقتل الإيطالي الطالب الباحث في مجال الحريات النقابية، فوصفته الخارجية الإيطالية بعد الاطلاع على جثته بـ"العنف الحيواني المتوحش". السفير الإيطالي لدى رؤيته الجثة قال: "رؤية الجثة كانت أمرًا مدمرًا. لقد ظهرت آثار التعذيب واضحة. وقد لاحظت وجود جروح وكدمات وآثار حروق. ليس هناك شك في أن الشاب تعرض للضرب الشديد والتعذيب".

خمسة آلاف بروفيسور حول العالم تقريبًا، وقّعوا عريضة للعالم يطالبون فيها بالكشف عن حقيقة مقتل جوليو ريجيني، وكرد فعل حول ما يحدث، أصبح الكثير من الأكاديميين الأجانب والعرب مترددين قبل القدوم إلى مصر وممارسة عملهم الميداني.

النفس السلطوية في مصر تعاني تضخمًا في "أنا" الهيبة والنفوذ، جعلها تشبه قطيع الفيلة وهي تمشي وتهرس كل مكتسبات الماضي، التي جنتها مصر على الهامش من حكم مستبد ومستقر دام ثلاثين عامًا أو ما يمكن أن نسميه "قوتها الناعمة".

يقول جوزيف ناي في كتابه "القوة الناعمة": "إنه في أثناء الحرب الباردة كان منافس أمريكا الأول في القوة الناعمة هو الاتحاد السوفيتي، الذي انهمك في حملة واسعة لإقناع باقي العالم بجاذبية نظامه الشيوعي، استخدمت موسكو الأحزاب الشيوعية المحلية لخدمة مصالحها، وصرفت المليارات على برامج دبلوماسية فعالة، كانت تشمل الترويج لثقافتها العالمية وإذاعاتها ونشر المعلومات السلبية عن الغرب، ورعاية الاحتجاجات على الأسلحة النووية، وحركات السلام، ومنظمات الشبيبة.

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. هل سيتخلص الجنرال من وزير داخليته؟

مصر كانت لها الكثير من مصادر القوة الناعمة، جامعات تقيم اتفاقات مع جامعات ومعاهد غربية، مناخ من الحريات يسمح بقدوم باحثين أجانب للبحث والسياحة، مساحة من الاستقرار السياسي والاقتصادي الشكلي تقلل معدلات الاحتقان.

أمين الشرطة هو الدولة، هو هيبتها، هو الحصانة المطلقة، وصلاحيات القتل اللامحدود

حين خرجت شيماء الصباغ، الناشطة اليسارية وعضو حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، إلى أحد الشوارع الجانبية من ميدان التحرير تحمل لافتة ووردة، أطلق عليها أحد الجنود المنتشرين في المكان خرطوشًا في ظهرها ووجهها. قضت المحكمة بسجن الضابط الذي أعطى الأمر 15 عامًا سجنًا مشددًا، استأنف الضابط ياسين محمد حاتم الحكم، فكان يدافع عنه في المحكمة أغلى المحامين المصريين؛ فريد الديب، وقضت المحكمة في النهاية بقبول الطعن المقدم من الضابط الذي وقف يراقب شيماء وهي تحتضر.

تُرى من يدفع أتعاب المحامي الأغلى في مصر، محامي مبارك وقيادات الداخلية؟ من يدفع لكي تدجج الدولة كل أموالها ومواردها للدفاع عن أصغر جندي على الجبهة في المواجهة مع المواطن؟ هل أصبحت هيبة الدولة المصرية على المحك لأن ضابطًا سيأخذ حكمًا في قضية هو متهم فيها ولا شك؟ أم أن الدولة تخشى أن يفتح ذلك بابًا عريضًا من المظالم والقضايا ضد ممارسات حاتم الشرطي، رمز الدولة المصرية الحديثة ومنبع خسارتها لتاريخها ومستقبلها ومقومات صمودها أمام كوارث اقتصادية مؤلمة.

أمين الشرطة هو الدولة، هو هيبتها، هو الحصانة المطلقة، وصلاحيات القتل اللامحدود، هو الذي كان يسمع استغاثات جوليو ولم يفهمها ليس لأنه لم يفهم اللغة، بل لأنه اعتاد على سماع استغاثات يفهمها، فيزيدها اشتعالًا.

طوبى لمن فقد عقله فقط في هذه المنطقة من العالم. 

اقرأ/ي أيضًا: 

اسم الله عليكِ يا مصر

حروب استعادة الدولة المصرية