20-سبتمبر-2016

تدخل "فيسبوك" هروبًا من يومياتك الجزائرية المتعسفة، فتجد النخبة والعامّة خائضين في موضوع واحد، وكأن البلاد حلّت مشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية كلها، ولم يبقَ لها إلا هذا الذي يخوضون فيه: اختطاف طفل أو تعنيف معلمة لأنها نشرت فيديو يصوّر أطفالًا من غير إذن، أو خطأ في كتاب مدرسي، فيطردك موضوع النقاش وطريقته إلى مقهى الحي.

تطلب شايًا ساخنًا، فيغرقك النقاش الساخن نفسُه، في شاشة التلفزيون المعلقة، وفي الطاولات المحيطة بك. الكبار والصغار والمتعلمون "بتوع المدارس" والمتسرّبون مدرسيًا والمتدينون والمتفسخون، هل هناك فرق بين متطرف في التدين والتفسّخ؟ قد تحوّلوا إلى مختصين في علوم السياسة والإعلام والتربية والاجتماع والرياضة والنفس والدين. "يا عمي جيبلي كاسي"، لكن النادل الذي وُجد أصلًا في المقهى ليأتيك بالكأس، تحوّل إلى طرف في النقاش الساخن حتى برد الشايُ في يده.

هل هذا مرحاض في مسجد أم قناة صرف صحي في بقعة خالية؟ تقصد في بقعة بحرية، ذلك أن البلاد كلها باتت تصرف قاذوراتها في بحرها، وتحتجّ في الوقت نفسِه على غلاء السردين

تغادر مباشرة إلى الحافلة، لتقلّك إلى السوق، وفي حلقك طعم الشاي الذي لم يصلك، فتجد النقاش نفسَه قد سبقك إليها، فتتساءل: "هل سينسى السائق أن ينطلق، مثلما نسي النادل أن يحضر الشاي؟"، ذلك أنه كان أكثرَ المتحدّثين حماسًا، عن الخطأ الذي اكتشف فجأة في الكتاب المدرسي، وفعلًا نسي الانطلاق، وليتك لم تذكّره بذلك، لأنه أسمعك وسخَ أذنيك. منذ متى لم تنظف أذنيك؟ تحسّستهما شاعرًا بحسدك للأصم.

اقرأ/ي أيضًا: الجمهورية الجزائرية المتناقضة

في السوق، لا تُنافس حرارةَ الأسعار إلا حرارةُ النقاش عن الطفل المختطف والمعلّمة "المظلومة" والخطأ المزروع في الكتاب المدرسي. تطلب كيلو من البطاطا، فيصلك كيلو من الخرشف، لأن الخضّار كان غارقًا في النقاش، ولم ينتبهْ جيّدًا إلى ما طلبتَ منه، تحاول أن تصحّح له، فيقول لك بأعصاب ملتهبة: "ما الفرق بين البطاطا والخرشف في بلاد يُراد لها ألا تفرّق بين فلسطين وإسرائيل؟". تترك البطاطا التي تخرشفت فجأة، وتستجيب لنداء الحق.

هل هذا مرحاض في مسجد أم قناة صرف صحي في بقعة خالية؟ تقصد في بقعة بحرية، ذلك أن البلاد كلها باتت تصرف قاذوراتها في بحرها، وتحتجّ في الوقت نفسِه على غلاء السردين. تتوضأ بصعوبة وتدلف إلى بيت الله، فلا تسمع صوتَه، لأن أصوات عباده المؤمنين تعالت حرارتُها منددة باختطاف طفل وظلم معلمة وزرع خطأ في كتاب مدرسي، وتعالى دعاء الإمام بأن يحمي الأمة من شر ذلك.

تحسّستَ أذنيك مرة أخرى، وهما تلتقطان صوت الشاب خالد في حانة البلد. منذ متى لم تَعجْ تسأل عنها؟ ضحكتَ بينك وبينك: "هنا على الأقل، تبرّر الدوخة تداخل الأصوات، وانزياح الاهتمام من الواقع إلى الخيال"، فتصلك ضحكات عاليات من طاولةٍ منخفضة. كانت بشعة عكس أناقة أصحابها الذين عرفتهم جيدًا. إنهم هم، هم من يحكمون البلد، وكانوا يتبادلون الأنخاب، فرحًا بشعب ينساهم، ويغرق في النقاش السخيف.

اقرأ/ي أيضًا:
خريطة إسرائيل.. عودة حديث التطبيع إلى الجزائر
مسنون جزائريون..من يكلم القبر المفتوح؟