26-نوفمبر-2015

تعقدت عملية التأسيس في ليبيا(جلال مرشدي/الأناضول)

ما تعيشه ليبيا اليوم فيما يتعلّق بحالة الانقسام والتناحر بين القوى السياسية والاجتماعية على حدّ سواء، هو من إرهاصات إعادة التوضيب ومخاضات التأسيس، في بلد يعيد شعبه، أو سكّانه لأكثر دقّة، البناء، بمختلف معانيه وتمثلاته. حيث تعيش ليبيا مرحلة التأسيس الكياني على عكس الحالة التونسية مثلًا حيث لم تطرح الثورة، في أفقها المضبوط بعد الحدث الثوري أي إسقاط رأس النظام السابق، رهان التأسيس للدولة من جديد، حيث تم الانتقال بأدوات الدولة وفي الدولة.

تعيش ليبيا مرحلة التأسيس الكياني على عكس الحالة التونسية مثلًا حيث لم تطرح الثورة رهان التأسيس من جديد وتم الانتقال بأدوات الدولة وفي الدولة

إن الحالة الليبية في الحراك الثوري في المجال العربي، هي استثنائية بالنظر لتركيبة النظام السياسي القائم حينها/البائد حاليًا، وهو نظام فريد في العالم أسماه القذافي بالجماهيرية، حيث لا توجد هياكل سياسية تقليدية بل توجد أطر تعبئة شعبية تسمّى "لجان شعبية"، تُشرف على إدارة الدولة، على الأقل كما تنطلق نظرية الجماهيرية في رسم دورها. ويقوم هذا النظام على الزبونية، وهو ينطلق من القبلية ولا ينحدر عما يتجاوزها لشكل تنظم حديث. فهو نظام قبلي، على غرار الأنظمة في الخليج العربي وخلافها. وهو مثلها في تأسيس التنظم وخلافها في شكل التنظم.

في ليبيا، يتوزع بضع ملايين من الليبيين على مساحة جغرافية شاسعة، من شريط الساحل الجنوبي للمتوسّط إلى أعماق صحراء أفريقيا. تتنوّع الأعراق من عرب وطوارق وتبو وأمازيغ، ويختلف النسيج القبلي بين منطقة وأخرى، وبذلك كان الانتماء للعرق والقبيلة طيلة عقود هو الغالب على الانتماء للوطن. وكان نظام القذافي، المسنود بتحالف قبلي، يلعب دور المحرار والضابط الأمني في مناطق التوتّر، ولكن انفجرت التوتّرات بعد انهياره. ففي الجنوب وبعد إسقاط النظام، تكثفت، الاعتداءات العرقية بين العرب والتبو، الذين لا يُستعرف بانتماءهم لليبيا من قبل بقية الأعراق خاصة لما يتم استذكار استغلال القذافي لجماعات من التبو في حروبه ومغامراته الأفريقية طيلة عقود.

من جانب آخر، كانت المنطقة الغربية، التي تتعدّد فيها القبائل وتتقارب في حدود انتشارها الجغرافي، منطقة تنازع نفوذ. فالعاصمة طرابلس مثلًا كانت محل صراع نفوذ بين مصراتة والزنتان، والآن تعيش العاصمة صراع نفوذ بين المجموعات العسكرية المحسوبة على مصراتة والمجموعات العسكرية الطرابلسية. وفي المنطقة الشرقية، لا يمثل تنظيم الدولة طرفًا دائمًا في النزاعات المسلّحة حيث تتصارع بدورها القوى السياسية-العسكرية المحلية وتحديدًا بين القوى المؤيدة لحكومة مجلس النواب والأخرى المعارضة له على غرار مجلس شورى ثوار بنغازي.

إن الحاصل في ليبيا كان منتظرًا منذ أيام الحراك الثوري المسلح ضد نظام القذافي، ولم يكن من الصعب استشرافه نظرًا لما تم ذكره سابقًا. ولكن ما عقّد، برأينا، عملية التأسيس في ليبيا هي خارطة الطريق التي اعتمدها المجلس الوطني الانتقالي والتي تم تعديلها عديد المرات آخرها قبل أيام قليلة من انتخابات المؤتمر الوطني العام في يوليو/تموز 2012.

تم الفصل بين إدارة الشأن العام وصياغة الدستور، على عكس الحالة التونسية، فكان المؤتمر غارقًا ولا يزال منذ انتخابه في قضايا الإدارة والتسيير في غياب مسار التأسيس وبالتالي كان المؤتمر، صاحب السلطتين التنفيذية والتشريعية، عبارة على مجلس بلدي وطني. ولم يتم انتخاب هيئة صياغة الدستور إلا في شباط/فبراير 2014، وهي انتخابات قاطعها التبو والأمازيغ ترشيحًا ومشاركة وبالتالي كانت شرعية التمثيل مبتورة منذ البداية.

ورغم أن القانون يحدد مدة 4 أشهر لتُكمل الهيئة صياغتها للدستور، لكنها لاتزال حتى الآن بين شد وجذب موازاة مع مطالبة عدد من نواب الهيئة بإقالة رئيسها علي الترهوني. ولقد أصدرت الهيئة مسودة للدستور لا يبدو أن الجميع يُعيرها الاهتمام اللازم في ظل غلبة النزاعات المسلحة والمفاوضات الإقليمية والأممية لمعالجتها.

يُعطي الجميع في ليبيا الأولوية لقضايا الإدارة وخاصة الشأن الأمني على حساب التأسيس الدستوري

يُعطي الجميع في ليبيا الأولوية لقضايا الإدارة وخاصة الشأن الأمني على حساب التأسيس الدستوري خاصة مع انتشار الجماعات الإرهابية المسلحة في شرق البلاد وغربها. وكأن الجميع أو الغالب الفاعل يسعى للحسم على الميدان وتوسيع مجال النفوذ العسكري والسياسي لتكون صياغة الدستور على الهامش. في نفس السياق، يبدو مجهود صياغة الدستور وكأنه عمل أكاديمي نخبوي لا يهمّ كافة الشعب الليبي بل فئة قليلة منه. الأمر لا يتعلق فقط بالمواطن الليبي البسيط، الذي باتت أكبر همومه غالبًا صرف راتبه دون تأخير بسبب انعدام السيولة، بل يشمل القوى الفاعلة في العملية السياسية في ليبيا.

إن حكومة وحدة وطنية تنهي حالة الثنائية على مستوى قيادة الدولة لا تمثل إلا خطوة إجرائية انتقالية ممهّدة لبناء الثقة بين مختلف القوى الاجتماعية والسياسية. وهذه الثقة لا يمكن بناؤها دون ضمان شروط تجذير الحوار والانفتاح بين مختلف القوى الليبية دون إقصاء وتهميش وبعيدًا عن منطق الغلبة.

الدستور هو تمظهر لحالة وفاق اجتماعي بالأساس ولذلك من الضروري إيمان مختلف القوى الفاعلة بأهميته ومحوريته في التأسيس، والتي يجب أن تتجلى بدعم هيئة صياغة الدستور كمؤسسة والانخراط في قضايا صياغة الدستور، سواء القضايا المتعلقة بالمبادئ والقيم المشتركة أو المتعلقة بالنظام السياسي. وعليه لا يجب أن يكون إقرار الدستور والمصادقة عليه باستفتاء شعبي مجرّد خطوة في خارطة طريق. ولا يجب أن تبدو صياغة الدستور مسألة أكاديمية تتمّ في الغرف المغلقة.  فالمسودّة يجب أن تكون محل حوار ونقاش بين مختلف القوى وفي كل مناطق ليبيا من السلوم إلى رأس الجدير، ومن أقصى نقطة ساحلية لأعماق الصحراء، وتلك هي الضمانة الحقيقة الوحيدة لتأسيس سليم ولتجاوز مختلف المطبّات ومخاوف الفشل.

اقرأ/ي أيضًا: 

الدستور الليبي الجديد في عيون الليبيين..

المرأة الليبية.. العنف متواصل