11-سبتمبر-2016

غرافيتي احتفائي بالحجيج على أحد الجدران في القاهرة (Getty)

في صباح اليوم الثالث من أيام الحجّ الأكبر في العام 2015، وقعت كارثةٌ هي الأكبر من نوعها في تاريخ الحجّ في حادثة تدافع تعدّ الأسوأ في العالم منذ عقود عديدة. تجاوز عدد القتلى 2400 شخص، وذلك بالاعتماد على التقارير الرسمية الصادرة عن 36 دولة فقدت مواطنين لها في ذلك اليوم. أمّا السلطات السعوديّة فلا تزال تصرّ حتّى اللحظة على أنّ عدد الضحايا هو 769.

ورغم وفاة الآلاف يومها، أو المئات على الأقل وفق السعوديين، فإنّه لم يصدر عن السلطات السعوديّة المختصّة حتّى الآن بيان يوضّح تمامًا سبب الحادثّة وكيفية وقوعها، وما تزال كما أسلفنا ممتنعة عن تقديم إحصاء دقيق بأعداد الضحايا. ومع تكرّر هذه الحوادث، كما حصل مثلاً في العام 2006 بعد وفاة أكثر من 360 شخصًا في تدافع مميت عند جسر الجمرات، فإنّ الاتهامات بالتقصير تلاحق المملكة، خاصّة من إيران، العدوّ التقليديّ اللدود، التي قررت هذه السنة حظر مواطنيها من المشاركة في الحج، احتجاجًا على طريقة تعامل السلطات السعوديّة مع الحادثة.

الاتهامات بالتقصير تلاحق السعودية منذ وقوع حادثة تدافع الحجيج قبل عام على الآن، خاصّة من إيران، العدوّ التقليديّ اللدود

ولم يكتب سوى القليل من الناجين عن الحادثة بشكل يفصّل مشاهداتهم ويسمح بتقدير ما حصل ولو بشكل جزئي، ومنهم السيّد راشد صدّيقي، وهو أمريكي من أصل هنديّ، قرّر أن يكتب ويفصّل مشاهداته في تلك الحادثة المروّعة التي نجا منها بأعجوبة كما يصف، ليزيد من وعي الحجّاج، والسلطات السعوديّة كذلك، لتجنّب تكرار هذه المأساة في المستقبل. وتحدّث صديقي في مقابلة مفصّلة مع النيويورك تايمز عمّا قاساه في تلك اللحظات.

اقرأ/ي أيضًا: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا.. بإذن "الريال"

خرج السيد صديقي من خيمته في مِنى في الساعة السادسة والنصف فجرًا، ليقتفي أثر النبيّ العربي في الحجّ، كما فعل قبل أكثر من 1400 عام. كان يسير في جمع يضمّ بعض أفراد عائلته وأصدقائه، منهم أخو زوجته الذي توفّي هو وزوجته في الحادثة.

توقف مسير الناس فجأة، كأنّها شهقة إلى الخلف، وأغلق بعض رجال الأمن إحدى الطرق، لأسباب لمّا يكشف عنها حتى الآن. نظر صديقي حوله فرأى أعدادًا كبيرة من الناس تأخذ طريقًا بديلًا عبر ممر علويّ وقرروا اللحاق بهم.

اتّصل صدّيقي بزوجته بمكالمة فيديو ليتسنى لها مشاهدة المنظر المهيب، أمواج بشريّة من الناس المتشحة بالبياض، تحت وهج الشمس الحجازية. كان يمشي في الأمام أخوها وزوجته، فابتسما للكاميرا ولوّحا لها بأيديهما وتابعا المسير بحماسة.

كانت تلك هي المرّة الأخيرة التي ستتحدث بها إلى أخيها وزوجته.

بدأ الطريق يضيق، وتأخر صدّيقي عن جماعته، لأنّ الفوج صار صفًا عموديًا واحدًا، وشعر صدّيقي بزيادة الضغط مع تزايد أعداد الناس المتدفقة إلى ذلك الطريق. نظر الرجل إلى الأمام ليرى أنّ بعض الناس يتسلقون بعض الحواجز العالية، كأنّهم يهربون من شيء ما، وفكّر للحظة إن كان يجدر به أن يفعل مثلهم، ولكنّه لم يتمكّن من ذلك.

تعرّض صدّيقي لدفعة قوية من الخلف، سقط مرتين أو ثلاث مرات وضيّع الجماعة التي كان يسير معها، ورأى بعض الناس من كبار السنّ حوله يتشهّدون التشهّد الأخير. كان ضغط الزحام والتدافع أشبه بأمواج عاتية، وكانت أجساد الناس تضغط عليه من كل ناحية. ولم يتمكّن من الحراك خطوة واحدة، كان الناس قطعة واحدة تتحرك معًا وتتوقف معًا. كان الشدّ والجذب والدفع على أشدّه، فسقطت لباس الإحرام عن الكثيرين والبعض ما يزال يحاول عبثًا تسلق الحواجز للهرب من هذا الموج المميت من البشر.

يقول السيد صدّيقي: "دبّ فيّ الرعب في تلك اللحظات، ولم أفكّر سوى بعائلتي."

وِصفت الحادثة بأنّها حادثة تدافع، ولكنّ معظم الضحايا في مثل هذه الحوادث يتعرضون في الواقع للسحق وقوفًا وليس للتعثّر والسقوط تحت الأقدام، وذلك بسبب مقدار الضغط الهائل المتولّد عن تدافع أعداد كبيرة من الناس، وهو ضغط قادر على ثني الفولاذ. فتدفّقُ أفواج الناس يترك الشخص غير قادر على التحكم بحركته ويصبح عالقًا تمامًا، ويكون السبب الرئيسي للوفاة حينها الاختناق، فالضغط المتولّد من تراصّ الأعداد الهائلة من الناس يجعلهم يختنقون وهم وقوف في مكانهم.

بعد مضي 15 دقيقة خانقة على السيّد صديقي، لم يجد نفسه إلا وقد لفظه الضغطُ إلى الخارج لينجو من موت محتّم. كان عاريًا إلا من إزاره، ولكنّه لم يصب بأذى. كان يشعر بعطش شديدٍ وشيءٍ من الدوار، وكان يرى الناس من حوله تلفظ أنفاسها الأخيرة.

اقرأ/ي أيضًا: السعودية وإيران.. إنه النفط

مكث صدّيقي ساعتين بأكملهما ولم يتلقّ أية مساعدة، فكوادر الأمن والإسعاف كانت تعطي الأولويّة لذوي الإصابات الخطيرة، وحين تفقّده أحد رجال الإسعاف أخيرًا أخبره بأن يتابع حجّه.

مشى صدّيقي باكيًا وهو يتجاوز جثث القتلى المتناثرة على مدّ بصره وصولاً إلى جسر الجمرات. شعر بالضياع، وكان يشعر بلهيب الأرض تحت قدميه الحافيتين. يقول صدّيقي: "كنت أمشي كالموتى".

وصل أخيرًا إلى موقع الجمرات، وأشفقت عليه امرأة هناك وأعطته مظلّة وبعض الماء، ولم تتكلم معه أبدًا. أتمّ الرجل شعيرة رمي الجمرات، دون أن يعرف كم حصاة رمى.

رجع إلى خيمته ليبحث عن ذوي زوجته، أخيها وزوجته، اتصل بهما فكان الهاتف مغلقًا. وعلى مدار أربعة أيّام، كان يجوب صدّيقي المستشفيات والعيادات علّه يجدهما، ولكن لم يصل إلى أي معلومة تصله إليهم.

لم توفّر السلطات السعودية نقطة استعلامات مركزيّة لمساعدة الناس الذين يبحثون عن أقاربهم وأصدقائهم، لذا كان على صدّيقي أن يجوب المرافق الطبيّة، واحدًا واحدًا، ليحاول العثور على أفراد عائلته. في إحدى المرّات ذهب مشيًا في طريق استغرقت 90 دقيقة كاملة ليصل إلى مشرحة للموتى، ولكنّ الحراس لم يسمحوا له بالدخول.

اضطر صدّيقي لإلغاء تذكرة العودة إلى أتلانتا، وتابع البحث مع بعض أفراد العائلة الذين انضمّوا إليه، وكانوا يبحثون كلّ يوم ويكررون زيارة المرافق كلّها، دون أي جدوى. ثم أعلنت القنصلية الهندية هناك أنّ لديها قائمة بجميع الحجاج المفقودين من الهند، فتوجّه صدّيقي إلى هناك مباشرة ولكنّ القائمة لم تشتمل على اسميهما.

بعد مضيّ خمسة عشر يومًا على الحادثة، تمّ تأكيد وفاة الرجل في مشرحة في منى، وجرى دفنه هناك في ذلك اليوم. وبعده بأسبوعين آخرين تم تأكيد وفاة المرأة بعد أن تعرّف أحد الأقرباء على صورة لها، وكانت السلطات السعوديّة قد تولّت دفنها.

يُذكر أنّ إيران قد ألقت اللوم مباشرة على السلطات السعوديّة، واصفة ما حصل بأنه إهمال وسوء إدارة. إندونيسيا عبّرت كذلك عن استيائها من تعامل السلطات السعودية مع الحادثة، وقال مسؤولون في الخارجية الإندونيسية إنّهم لم يتمكّنوا من الوصول إلى الضحايا والمستشفيات لأيام عديدة.

أمّا باكستان، حليفة المملكة العربية السعودية، والتي تتلقى الدعم المالي والعسكري  اللوجستي منها، فقد حاولت التهوين من الحادثة وعدد الضحايا الذين قضوا فيها، وحذّرت السلطات وسائل الإعلام المحليّة من انتقاد الإدارة السعودية للحج.

وحين رجع صدّيقي إلى أتلانتا عكف بحكم تخصصه في الهندسة وإدارة المشاريع على دراسة كل حركة أقدم عليها، وأجرى بعض البحوث ليقف على حقيقة ما جرى، ووضع خرائط ورسم الطرق وكتب الكثير عن تجربته هناك. لكنّه في النهاية لم يجد حتّى الآن ما يكفي من الإجابات.

يقول صدّيقي: "لقد كنت هناك، ولكنّي عاجز عن تفسير ما حصل".

اقرأ/ي أيضًا: 

عشقي في إسرائيل.. السعودية تُشهر التطبيع

هكذا أنقذت السعودية حسن نصر الله