14-فبراير-2016

لاجئون سوريون ضد اعتداءات كولونيا (Getty)

تقول الحكاية: مجموعة من الضباع السمر هاجمت قطيعًا من الغزلان البيض التي لا حول ولا قوة لها، سوى أنها مرّت عرضًا أو عمدًا ذات احتفال فأرادت أن تشرب وتأكل وتتنقل رقصًا من حياة باردة طيلة العام إلى يوم دافئ على أول العام الجديد، لكنّ خطأ ما جماعيًا ساق ما يقارب المئات من الوحوش، اتفقت لتنهش جسد الغزالات، وهنا الافتراس لم يتم أكلًا وتمزيقًا وإنما بين التمنع والرضا جاءت الرغبة حلًا وسطًا فدخل الحابل بالنابل، ولأن الغزالة هنا لا ترى وحش الجنس وحشًا، فهي تأتي بصديقها الضبع إلى سريرها أو إذا تعرفّت عليهِ يتم العرض فإما قبول ممتع أو رفض يودي بكل ذي حاجة إلى حاجته وشأنه.

لم يترك "الأسد السوري" للسوريين ما يمكن أن يسمونه حصة، إلا الوقت المستقطع للموت.. وما أطولَه!

غير أنّ الذي حدث فقد تدخلت مشيئة الغابة عقب شكوى قالت عن تحرش واعتداء وسرقة، فذهبَ سدنة الغابة المسيجة بالقانون والنظام إلى توجيه أصابع الاتهام إلى قادمين جدد سمر وللتنصيص "أفارقة شماليون" ومن بين التحديد الذي طال كلَّ الهاربين من جحيمهم إلى جحيم التشكيك، كان للسوريين حصتهم، ليس حصة الأسد، فالأسد "السوري" لم يترك للسوري ما يسميه حصة اللهمَ إلا الوقت المستقطع للموت وما أطولَه!

إذن، انتهت القصة هنا، فهي بدأت بالسؤال المحيّر: هل فعلًا البلد الذي حدثت فيه "الغزوة" غابة، وطرفا عملية الافتراس ضبع وغزالة؟! خاصةً إذا عرف الناظرُ عن قربٍ أن العسسَ بحجةِ الإرهاب وتهديده يتواجد في الشوارع والأزقة وحول مصبّات الأنهار والمراحيض وحاويات القمامة خوفًا من لغم هنا أو حقيبة مفخخة في مكان آخر، وعيونهم عشرة على عشرة ترصد كل شاردة وواردة، ويمكن لكل منا أن يعرفَ أن "البوليساي" الألماني يحدد سرعة حضوره بعد الشكوى أو طلب النجدة بسبع دقائق كحد أعلى، بحيث لا يستطيع المعتدي فك سروال المعتدى عليها إلا ورجل الأمن ببزته الزرقاء أمامه كقدره المستعجل!

حدثَ الاشتباك "الجنسي" من قبل محرومين كما وصفوا، وآخرين لا يرون الفعل جريمة لو قضي بالاتفاق في أكثرِ الساحات مجلبة للاحتفالات، لا سيما أن كولن، أو كولونيا أو كولون، تأخذ على نفسها عالميتها ودخول القدر الأكبر من السياح إليها لزيارة راينها الذي يشطر المدينة إلى قلبين، وكذلك كاتدرائيتها "الدوم"، الأقدم في العالم والتي بقيت عصية على الحرب والطبيعة، وكذلك "كرنفالاتها"/ يومها أو لنقل أيامها، حيث تضيعُ الطاسة في النبيذ و"الكلوفاين" (نوع من النبيذ الساخن) والهياج الذي تمنحهُ المشاريب والرقص وحميمية تلامس الأجساد بين أصدقاء يترافقون للغاية، وبينهم وآخرين تفتح الخمرة واللحظة الحلوة بابًا للتعارف والدخول إلى ذلك العالم السري أو الواضح والمبهج. 

شخصيًا تابعت الألعاب النارية لنهاية رأس السنة من شرفة بيتي، ولم أقل لو أن ثمن هذه المفرقعات ذهب إلى السوريين كان أجدى، فهذا الشعب هذا ديدنه كل عام، ولا أعترض على طريقة حياته، فنحن بينهم وليسوا هم من جاؤوا إلى بلادنا هربًا من أنجيلا ميركل مثلًا.

ما حدث في كولونيا هو استثمار للمزاج العنصري ضد اللاجئين، وكذلك تصفية حسابات بين يمين متطرف وآخر معتدل

في العام الفائت كنت حديثًا على المدينةِ، تعرضتُ أثناء مروري لتحرش جنسي من فتاتين: إحداهن وضعت فمها في فمي، والثانية مدّت يدها إلى أسفل بطني، ولعدم التكافؤ بيني وبينهما -فلم أكن متناولًا لأي من الخمور كما أنَّ الغريب الذي كنته جعلني أهشُّ رغبتي وأسرعَ عن المكان- نجوت ولم أسجّل شكوى بالواقعة لأنَّ الأمر كانَ ضمن الممكن والطبيعي للمكان واليوم.

وقبلَ ثلاث سنوات زرتُ عمار حسو، قريبي من جهة الأم، في هانوفر، وصدف أن احتفالًا كانَ مشتعلًا، واقتربت منا نسوة كثيرات، أكثر من مسافة مَدَةِ يدٍ على طولها، كما طالبت السيدة عمدة كولونيا، لتحاشي التعاطي مع الغرباء، وقالَ عمار: بعد هذا الاحتفال يَحسب القائمون على المدينة تسعة أشهر ليؤمنوا اللقطاء نتيجةَ التزاوج الماقبل مدني والاعتباطي وليوم واحد.

لماذا هذا العام يتمُ الحديث عن "مجزرة جنسية"، ينطبق عليها توصيف الجريمة المنظمة، شخصيًا سأقولها بلا مواربة ليس خوفًا من أحد، ولا خوفًا من اتهام بالسذاجة: مؤامرة.. نعم مؤامرة واستثمار للمزاج العنصري ضد اللاجئين، وكذلك تصفية حسابات بين يمين متطرف وآخر معتدل، بين أشرار وخيّرين، بين أصحاب مصلحة في التضييق على اللاجئ وملاحقته حيث هو، وبين أقوال وأفعال تتنطح للمطالبة بالتخفيف عنه.

في الوقفات التي تدعو لمناصرة مدن منكوبة ومحاصرة ومجوعة مثل مضايا اليوم، يكاد الداعون إلى ذلك أن يصيبهم العجز لتأمين العشرات للوقوف في إحدى الساحات، كيف يمكن جمع كل هذا القطيع وفي يوم واحد وفي مكان واحد، لينقضوا على الفرائس، ويغيبَ القانون، ويغيبُ حماتهُ، ويتم الفعل كما لو أنهُ حاصل في بلدٍ عربي تمَّ شراء ذمم مخابراتها وشرطتها وعملائها؟

أنا في كولونيا اليوم ولست أدرى بما يجول فيها، كما يعلم أهل مكة بشعابها، غير أني أعرف أن الزوبعة ستمضي والجناة سيلقونَ القضاء العادل، وأعرف أيضًا أن الأبواق والنافخين في كير التأليب على السوريين لن يكفوا عن عماهم الذي يصل حدَّ الغباء واللؤم.

قبل يومين فقط قال لي قريبي الذي ابتليت زوجه بعارض صحي، بأن أحد المهتمين في المسرح زار الكامب وتبرعَ بمشغله لمدة شهر لإيوائهم من أجل تجنيبهم قسوة تطال المريضة في الكامب، ومما سمعه الرجل من الشرطة وإدارة الكامب بعد شكره على صنيعه الخيّر نصيحة أن يتنبّه، وعندما أخذه فضوله للاستفسار، قالت له شرطة برلين: "هناك من يرسلهم النظام السوري بين اللاجئين للقيام بأعمال تخريب وتشويه لتشويه صورتهم".

انتهت مقالتي عند النقطة السابقة وكُتبت في وقت مبكر، كانت "الزوبعة" ذهبت إلى السوريين، لكنَّ اليوم وضعت التحقيقات رحالها وبُرئَ السوريون من جرم لم يقترفوه، إذن، الوحوش لم تكن منا يا أولي الألباب، فلا تفرحوا كثيرًا بتشويه السوري، هذه الحربِ جعلتهُ أجمل وأكثر صلابة والأيام بيننا.

اقرأ/ي أيضًا:

وحوش كولن وصبيان بيغيدا

ندوب أحداث كولونيا