22-فبراير-2016

برج لندن (Getty)

يقول المثل الشائع: "كل نبي في قومه مهان" وفي رواية أخرى "لا كرامة لنبي في وطنه"، ولا شك أن هذه المقولة تنطوي على جزء عظيم من الصحة، بل إنها تمتد لتشمل أغلب المفكرين والفنانين الذين تركوا بصمات شديدة الوضوح عبر مسيرة التطور المعرفي والفني الإنساني، والأمثلة كثيرة والشواهد غزيرة.

الحرب الأهلية الإنجليزية التي كتب عنها شكسبير "هنري السادس" اشتهرت باسم "حرب الوردتين"

هكذا فقد اعتبرت جماعة "قبل الرفائيلية" خارجة عن النمط الفني السائد في إنجلترا، منتصف القرن الثامن عشر، خاصة أنها حاولت النزوع نحو إصلاح الفن وأشهرت رؤيتها بأن الفن السائد كان فاسدًا. أتت تلك المجموعة التي تكونت من سبعة رسامين وشعراء من الشبان معجبة بالرسام الإيطالي رافائيل لبساطة أسلوبه وخلوه من التكلف، ويعتبر الرسام وليام هولمان هنت وجون إفرت ميليه من أبرز أركان تلك الجماعة، بما امتازوا به من رومانسية ونزوع دائم نحو التعبير عن الجوانب الأخلاقية. ويمكن أن تلحظ ذلك بسهولة حين تطالع بعض الرسومات للشابين، كلوحة "المسيح في منزل والديه" لميليه، أو لوحة "أميرا البرج" الشهيرة.

تداعت تلك المعلومات في ذهني حين سمعت فتى يغازل حبيبته في مساء صيفي فنلندي جميل، أمام كنيسة ذات طراز معماري قديم، كان الفتى يؤكد بكل حزم أنه مستعد لتسلق الجدار الخارجي نحو غرفة البرج العالية فيما لو كانت أميرة مسحورة ومسجونة فيها، بينما كانت تلك الحبيبة تحتضن باقة من الورود الزاهية.

فكرت فورًا بأن ذلك العاشق اليافع قد لا يعلم شيئًا عن قصة أميري البرج اللذين قتلهما عمهما كي يستولي على عرش المملكة. تقول القصة إن الملك ريتشارد الثالث الذي استلب الحكم بعد وفاة أخيه من ولي العهد الصغير، كان قد احتال على زوجة أخيه إليزابيث، زوجة الملك المتوفى إدوارد الرابع، وأقنعها أن ترسل ولديها إلى برج لندن، وذلك بواسطة أسقف متآمر كانت تثق به. وكان البرج يعتبر بمثابة مقر الإقامة الرسمي قبل تتويج الملك الجديد، وهناك حبس الأخوين عدة أيام، ثم بعث من قتلهما بواسطة الخنق بالملابس والوسائد، بعد أن رفض مدير البرج قتلهما وفقًا لرسالة العم الخائن. وهكذا فقد سرت أسطورة شبحي أميري البرج على ألسنة الناس وتناقلها العوام.

قيل لاحقًا إن الكوابيس أنهكت ريتشارد الثالث وأنه قضى حياته معذبًا ومكروهًا بسبب جريمته، وأن جثتي الولدين اكتشفتا بالصدفة تحت برج لندن الشهير بعد سنين طويلة. بدا لي مضحكًا أن أقول للمغرم الصغير إن الحرب الإهلية الإنجليزية الشهيرة التي أوصلت والد الأخوين القتيلين للحكم بعد انتهائها كانت قد اشتهرت باسم "حرب الوردتين"، التي كتب عنها شكسبير مسرحيته الخالدة "هنري السادس"، بل إنه هو من سماها بذلك الاسم، إذ إن طرفي الصراع كانا قد اعتمدا الوردة البيضاء والوردة الحمراء كشعارين لهما.

كثيرة هي الأبراج التي شيدناها بأنفسنا كمقرات رسمية، لتتوج الاستبداد على عروش أوطاننا وقلوبنا

غادر الفتى العاشق مع حبيبته وبقيت وحدي في ذلك المكان أستذكر كم من المرات قرأت عن الياسمين الدمشقي، وعنب الشام، وبلح اليمن، وتمر العراق.. خلال هذه الحروب التي عصفت بهذه البلدان. كان النهار الفنلندي الصيفي يمتد طويلًا غير آبه بليل قريب، بينما كانت الأفكار تنتقل بي من تساؤل حول وظيفة الفن في تكريس الأخلاق النبيلة، إلى تساؤل حول ماهية الحب والورد في زمن الحرب وقطع الرؤوس. 

تداعيات شتى أولها ينطلق من قبر يقع في غرفة جثث تحت برج لندن، وآخرها يواكب آلاف القبور لآلاف الفتية، الواقعة تحت أبراج شيدناها بأنفسنا كمقرات رسمية لتتويج الاستبداد على عروش أوطاننا وقلوبنا وضمائرنا، في مختلف البلدان العربية.

غادرت لاحقًا ذلك المكان، وبقيت الكنيسة وحدها حين حل الليل. بينما كان شبح الملكة إليزابيث الهارب من تداعياتي يقول لأسقف كنيسة "كانتيربوري توماس" الذي غرر بها ليقنعها بتسليم ولدها لعمه ريتشارد القاتل: "أعلم أنك مخلص وصادق ولديك السلطة والقوة، لذا وبسبب الثقة التي منحك إياها والده أُحملك مسؤولية حماية ابني"، وعلى غير بعيد منهما كان شبح رافائيل يرسم في ليل ذلك المكان قمرًا لي أطل به على بلادي البعيدة. 

اقرأ/ي أيضًا:

الإصغاء إلى لغة الحجارة

سيدة المقالات