تشهد الضفة الغربية توالي العمليات الفردية بشكلٍ تصاعديٍّ مكثّف، يكشف عن قدرة هذا النمط الفدائي على إنتاج قواعد جديدة للاشتباك، ليس من حيث شكلها وإنّما في الخلفية والمضامين؛ حيث أنّ هذا النمط من المقاومة كان حاضرًا في مختلف مراحل تاريخ النضال الفلسطيني إلّا أنّ سِماته الراهنة هي المستجدّة؛ تبعًا لطبيعة التحولات في بنية النظام السياسي الفلسطيني وممارساته، ومكانيّة الاستهداف وزمانه. وهنا يطرح التساؤل الذي ينطلق منه المقال، وهو: ماذا نقرأ في دوافع المقاومة الفرديّة وطابعها من دلالات وتداعيات، ضمن إطار ما يُقدّم إليها من نقد بنيويّ واستراتيجي؟
بواعث فرديّة فعل المقاومة
يفرض واقع المعيش تحت كيان احتلال قمعي بلورة أنماط مقاومة يصعب التنبؤ بها وإدراك إمكانياتها، وتوقع شكلها وسياقها الزماني والجغرافي. بالإضافة إلى ما يمكن أنّ تحدثه على الصعيدين الماديّ والمعنويّ للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. يدلل على ذلك حال المقاومة في الضفة الغربية خلال الأعوام الثلاثة الماضية -تقريبًا-؛ إذ شهدت تشكّل تنظيمات وجماعات مقاومة مسلّحة؛ كعرين الأسود وكتيبتي جنين ونابلس، وأحداث مقاومة فرديّة ضدّ الاحتلال ومستوطنيه، تتمثل في عمليات الدهس والطعن وإطلاق النار، التي تستهدف العمق الإسرائيلي الأمني والجغرافي الاستيطاني. كما تتخذ طابعًا شعبيًّا يتجاوز التنظيم الهرمي والقيادة العمودية، ويعبر الفصائلية/الحزبيّة لما هو خارج أي تأسيس جماعي استراتيجي في التخطيط والتنفيذ.
يفرض واقع المعيش تحت كيان احتلال قمعي بلورة أنماط مقاومة متعددة يصعب التنبؤ بها وإدراك إمكانياتها، وتوقع شكلها وسياقها الزماني والجغرافي
تتعدد دوافع نشوء هذه العمليات النوعيّة وتكرارها وتراكمها وامتدادها في مختلف جغرافيا الأراضي المحتلّة، نذكر أبرز اثنين منها، مع الإشارة إلى أنّ كلّ دوافع وأسباب أي عمل مقاوم تقع تحت مظلّة المحفزّ الوطني وغاية التحرر، كما تتلازم مع وجود احتلال دموي تطهيري تتنامى جرائمه وهيمنته على الفلسطينيين ويتكاثف وجوده الاستيطاني؛ الجغرافي والديموغرافي.
أولًا؛ يتمثل في ما هو منعكس عن هشاشة سلطة أوسلو التي غيّبت إمكانية طرح حلول سياسية تتوافق وتطلعات الشعب؛ وهو ما خلق الهوة بين إرادة الشارع وخيار القيادة وعملها، وحفزَّ الشباب الفلسطيني إلى تشييد حالة مقاومة هو الفاعل فيها على المستويين النظري (الفكر) والتطبيق (الممارسة). وإنّ سياق البحث عن أسباب عجز السلطة وفقدان الشعب الثقة بها، يتطلب تحليل شكل الممارسات التي تتبناها وعلى رأسها التنسيق الأمني والتعاون مع الاحتلال في احتواء أي حالات ردّ فعل شعبي على جرائمه بشكلٍ يُعرّض الفلسطيني للمراقبة والعقاب. أضف إلى ذلك، شكل خطاب السلطة سواء الشعبي المحلّي أو الدولي الرسمي والإعلامي، الذي يفترض أنّه يمثّل خيار الشعب وتوجهاته ويجب أن يعكس السرديّة الفلسطينيّة دون الاستمرار في التفاوض والاستجداء، وتكرار إعادة إنتاج شكله اللغوي ومضمونه من حيث المعنى والتأويل دون إضفاء أي أبعاد وظيفية ذات تأثير.
ثانيًّا؛ ما يتمثل في تراجع دور الفصائل الفلسطينية في المواجهة العملية (الفاعلة ذات الجدوى) للاحتلال، في مختلف أحداث الاشتباكات الميدانيّة والاعتداءات الجماعية والاقتحامات المستمرة. حيث أنّ تفكك العمل الحزبي على المستويين الفكري والبنيويّ مع تقويض منهجية الوحدة الوطنية الفلسطينية كشعار وغاية سياسية عمليّة، دفع المقاوم الفلسطيني الثائر والواعي لتضارب الغايات السياسية وتراجع العمليات العسكرية إلى المبادرة في التنفيذ الفردي لفعل الرد على انتهاكات الاحتلال والتصدي لأهدافه.
مكانيّة الاستهداف وزمانيّة التنفيذ
تعتمد المقاومة الفدائية الفرديّة على أسلوبية المبادرة ومباغتة العدو، التي تترك أثرًا إيجابيًا في خلخلة الأمن الإسرائيلي الداخلي كونه لا يمكن للاحتلال أنّ يتنبأ أين ومتى تتحول الطاقة الثورية والقيم الاستشهاديّة إلى فعل مقاومة مُمارس. من هنا، اكتسبت العمليات الفرديّة الأخيرة في الضفة الغربية خصوصيتها من الحيز المكاني لوقوعها ورمزيّة اختيار توقيتها.
إن اعتمدنا على بلدة حوارة جنوب مدينة نابلس كمثال لقراءة الخصوصية الجغرافية للمواقع المستهدفة؛ كونها بدت تتصدر مشهد العمليات الفردية من حيث الكمّ والنوعيّة. سنلاحظ أنّ المنفذ تمكّن من تحقيق هدفه في المكان الأكثر تحصينًا أمنيًّا والأقل احتمالية لاشتباك الفلسطيني والآخر المحتَل، ما يعني أنّه تغلب على توقعات العدو حول ظرفيّة وقوع المواجهات؛ فشكّل أزمة على الصعيد الأمني والاستخباراتي لإسرائيل. وذلك من منطلق الخصوصية الجغرافية لبلدة حوارة مع الاستيطان؛ فتبعًا لتصنيفات اتفاقية أوسلو وتقسيماتها للضفة الغربية، تقع حوارة في المنطقة (ج) التي تشكّل ما يقارب ثلثي الأراضي المحتلة، وتقع تحت السيطرة الإسرائيلية الشاملة على الجوانب الأمنية. وهو ما يعني أنّها منطقة جغرافية تسودها حالة الرقابة والتعزيز العسكري.
إنّ وقوع عمليات فرديّة في بلدة حوارة يعني استهداف العمق الإسرائيلي؛ الاستيطاني من حيث الديموغرافيا، والأمني الاستخباراتي من حيث المنظومة السياسية؛ إذ تعدّ محط عبور أساسي للإسرائيليين -المتطرفين خصوصًا- كونها المركز الواصل بين المستوطنات المقامة على أرضها وما يجاورها، كما تضم معسكرًا لجيش الاحتلال؛ مما دفع بِهِ إلى تعزيز التغطية الأمنيّة للبلدة بإنشاء "حاجز حوارة" على مدخل مدينة نابلس وتكثيف الحواجز العسكرية، وطرق وأدوات الرقابة الشاملة من كاميرات وأجهزة تجسس وغيره من الوسائل التكنولوجية المعتمد عليها في تحصيل المعلومات الاستخباراتية.
لا يمكننا فصل مشهدية العمليات الفرديّة عن سياق المقاومة الفلسطينية الشاملة، فهي واحدة من صورها وامتدادًا لتاريخها وشكلًا لأوجه النشاط النضالي
أضف إلى ذلك، مثال العملية الفدائية الأخيرة في الخليل (21 آب/ أغسطس) التي أسفرت عن مقتل مستوطنة وإصابة آخر. فهي من حيث موقع الاستهداف بعثت للاحتلال برسالتين؛ الأولى أنّ تنفيذها في الخليل يطرح إمكانية امتداد رقعة العمليات الفردية، وعبثية استثناء قدرة جنوب الضفة الغربية على بلورة نموذج مقاومة يحاكي العمليات الفردية في شمالها. أمّا الثانية، فهي موجهّة لوزير الأمن القومي الإسرائيلي "ايتمار بن غفير" على وجه الخصوص؛ فإنّ تنفيذ عملية في المدينة التي يستوطن بها هذا اليميني المتطرف يعكس قدرة المقاومة على مفاجأة العدو وضربه بمعقل أمانه؛ ليؤكد له عجزه عن توقع كيفيّة الردّ على غطرسته.
أما فيما يتعلق بزمانيّة التنفيذ، يمكن بلّورة علاقته مع الزمن في مستويين من القراءة:
أولًا، لحظيّة القرار. وهي التي تتغلب على سرديّة كفاءة المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وتحيّد قدرتها على الحدّ من العمليات الفرديّة، لا سيما أنّها لا تنتمي لأي جهة جماعيّة أو تركيبة فصائلية مما يجعل من إمكانية رصد عملية التخطيط المسبق لها أو ضبط منفذيها لإحباط وقوعها أمرًا صعبًا.
ثانيًا، في العلاقة ما بين الذاكرة وزمن التنفيذ. أي فكرة التزامن لإحياء الذاكرة وتخليد أحداث الماضي من اعتداءاتٍ ومقاومات. وهو ما يعطي الدلالة الرمزية لزمن التنفيذ من خلال تجلّي انبعاث الماضي في الحاضر بوصفه أحد محفّزات تشكّل هذا النمط من المقاومة. وذلك يتضح بالعمليات الفرديّة ذات توجه الردّ على حادثة اعتداء معينة. مثلاً، وافقت عملية الخليل الأخيرة ذكرى إحراق المسجد الأقصى عام 1969، بالتالي أحالت مباشرةً إلى هذا الحدث التاريخي وإلى شهدائه؛ لِتصّور كونها ممارسة تُخلّد ذاكرة أحداث الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتسعى إلى تنشيط فعل التذكّر.
فرديّة التنفيذ وجمعيّة المرجعية
لا يمكننا فصل مشهدية العمليات الفرديّة عن سياق المقاومة الفلسطينية الشاملة، فهي واحدة من صورها وامتدادًا لتاريخها وشكلًا لأوجه النشاط النضالي. هذا ما يدفعنا للقول بأنّ فرديّة فعل الفداء في العمليات الفردية لا يلغي:
أولًا، أنّها مُنبعِثة من مرجعية فلسطينيّة جمعيّة من حيث ذاكرة فعليّ الكفاح والفداء؛ ففي تناول الذاكرة ببعدها الجمعي تتضح وظيفتها في تأسيس هوية مشتركة لهذا الشكل من الفعل المقاوم، وتخليد المقاومة والفداء والتضحية وغيره كقيم مجتمعية. وذلك من واقع أنّ المقاومة الفلسطينيّة ليست حدث تاريخي ماضي منقطع، بل هي تاريخ راهن وحاضر مستمر بشواهد الماضي وتبعًا لاستمرارية حدث الاستعمار.
ثانيًا، أنّها باعِثَة لمضامين جمعيّة من حيث الدعم والتأييد الشعبي وما يحظى به المنفذ من حاضنة اجتماعيّة، بالإضافة إلى ما تنتجه من أشكالِ التفاعل معها على المستوى الشعبي، وقدرةٍ على إثارة تخوّف الاحتلال منها كونها تعبّر عن إرادة جماعيّة وخيار شعبي لمقاومة مستمرة يؤمَن بِجدواها. وعليه، تُمثّل هذه الرمزيّة/البعد الجمعي/ة إحدى الدوافع الكامِنة في هذا النمط من المقاومة.
ما بين الجدوى والنقد
بالإضافة إلى الجدوى الكامنة في رمزيّة مكان وزمان التنفيذ بما يحمله ذلك من مضامين وطنيّة وثوريّة واجتماعية وحتّى تاريخية، تتجسد جدوى العمليات الفرديّة المتصاعدة في مسارين:
الأول على مستوى الاحتلال. وذلك من حيث أنّها تعرّي فشله في تجزئة الجغرافيا الفلسطينيّة وتقسيم الشعب الفلسطيني إلى فاعلٍ في المقاومة ومُحْجِمٌ عنها؛ من خلال عمليات الهندسة الاجتماعية البشرية السلطويّة والهندسة الجغرافية الاستيطانيّة؛ لتحييد الضفة الغربيّة عن حركة المقاومة. بالإضافة إلى أنّ تكرار وتكاثف العمليات مع ما تثيره في وجدان الفلسطينيين، يقلق الاحتلال من إمكانيّة أنّ تنتقل هذه العمليات من طور الفردية إلى الجماعية لتتحول إلى مجموعات مسلّحة على غرار كتائب نابلس وجنين ومجموعة عرين الأسود. لا سيما أنّ المنفذين أنفسهم يعملون لغاية ذلك. مثلًا، ذكر الشهيد "عدي التميمي"، المنفذ لعمليتين فرديتين في القدس، في وصيّته: "أعلم أنني لم أحرر فلسطين بالعملية، ولكن نفذتها واضعًا هدفًا أساسيًا أن ثمرة العملية مئات من الشباب ليحملوا البندقية من بعدي".
التحام الفضاء العام مع الفعل الفردي يتطلّب حشد كل إمكانيات النضال تحت غطاء سياسي تنظيمي، يعي كيفية توظيف كثافة هذا النشاط النضالي في عمل جماعي مُنسّق
الثاني على المستوى الفلسطيني. وذلك من خلال ما عزّزته العمليات الفرديّة على المستوى الشعبي أو ما بعثت به من رسائل للسلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية؛ إذا أنّ هذا العمل الفردي يعطي الدلالة على أنّه مقاومة محكومة بسياق اجتماعي وسياسي يعكس عمق الوعي الفلسطيني بما يفرضه واقع الاحتلال وما يتطلبه، دون قبول المساومات والتنسيق أو التعاون معه تحت ادّعاء مصلحة الشعب وحماية المقاومة والمصالح المعيشية. أضف إليه أنّ إعادة إنتاج نموذج البطل في كلّ عملية يعمل على تعزيز معاني الفداء والتضحية والاستشهاد كَقيمة، وربما هذا ما دفع بعض منفذي العمليات إلى الإحالة بعمليتهم إلى أشخاص أو شهداء (منفذي عمليات سابقة).
بالمقابل من كلّ ذلك، يجب الإشارة إلى أنّ العمليات الفردية يستحيل أنّ تكون حلًّا للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إنّ لم تتسم بطابع التنظيم والعمل الجماعي، فأهميتها في العمل على تراكميّة فعل المقاومة في السياق الاحتلالي تطرح ضرورة المحافظة على استمراريّة ذلك من خلال احتواء هذا العمل ضمن إطار منظّم وتخطيط استراتيجي فعّال على المدى البعيد كما القريب. أيّ أنّه للحفاظ على ديمومة هذه العمليات الفردية يجب بلورة مشاريع وطنيّة جماعية لها إستراتيجيتها الواضحة. وهذا ما يحيلنا إلى الأسباب التي دفعت نحو إضعاف جدوى هذا النمط من المقاومة، وهو ما يتجلى من المفارقة بين تاريخ العمليات الفرديّة في سابق الحركات الاحتجاجية وبين صورها الحاضِرة، من حيث افتقادها اليوم لِبُنّية تشتبك معها وتنتقل بها من حالة الموجة إلى حالة التأثير المركزي العميق الذي يضمن تشكيل حاضنة شعبية عريضة تجذّر العمل الجماعي المقاوم.
وعليه، إنّ التحام الفضاء العام مع الفعل الفردي يتطلّب حشد كل إمكانيات النضال تحت غطاء سياسي تنظيمي، يعي كيفية توظيف كثافة هذا النشاط النضالي في عمل جماعي مُنسّق، وتوجيهه بما يغذّي الحالة الثورية في مختلف الأراضي المحتلّة.