02-ديسمبر-2015

صخرة إليوثيرا العملاقة في جزر البهاماس (Getty)

مؤشرات عديدة تلك التي تدل على أن الفاعلين في مجال العلوم الإنسانية في بلداننا العربية يفتقدون إلى جرأة النظريات العلمية الغربية خاصة في مجال علم النفس، وتوجيهها لخدمة الإنسان العربي عوضًا عن الاكتفاء بالترويج لها نظريًا، مع الوعي بحدودها ما دامت قد نشأت في تربة مختلفة عن تربتنا. إن مهمة الباحث والعالم اليوم هي توظيف تلك المعارف لفهم خصائص إنساننا التي تكونت عبر تاريخ طويل من الفعل السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي لتصبح قادرة على خدمة قضايا إنمائنا.

ليس العالم الذي نعيش فيه سوى بنية من العلاقات التي شاركنا في تشكيلها بوعي أو بدون وعي

نحن اليوم مطالبون أكثر من أي وقت مضى باتباع علاج يحفز مجتمعاتنا على الانطلاق واكتشاف الإيجابيات وأوجه الاقتدار وتنمية الإمكانات لدى الفرد والجماعة، مثل العلاج النفسي الوجودي الذي نشأ كرد على المبالغة في التركيز على أوجه الاضطرابات النفسية والعقلية، خاصة في علم النفس المرضي الذي حول علم النفس عمومًا في أذهان الناس إلى مرادف لما هو غير طبيعي وغير سوي، مع تجاهل أوجه القوة والعافية وطاقات النماء والانطلاق.

ظهر العلاج النفسي الوجودي في أوروبا في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، وهو تخصص منفرد ينتمي إلى حقل الدراسات "التحليلنفسية" ويسعى إلى تشييد طريقة حديثة تمكن من فهم الكائن الإنساني باعتماد منهج دقيق يتعامل مع الشخص الحقيقي المباشر الذي تحدث له الأشياء وتجري فيه المجريات، كما يتجنب إسقاط نظريات المحلل النفسي الخاصة على المريض كما هو الحال لدى مدرسة فرويد ومدرسة سكينر ومدرسة يونغ. 

يقول لودفيج بنسفانجر وهو أحد مؤسسي مدرسة التحليل النفسي الوجودي: "لقد نشأ العلاج الوجودي عن عدم ارتياحنا للمدارس السائدة التي تحاول أن تحقق لنفسها نوعًا من التبصر العلمي في مجال الطب النفسي". يطرح هذا النوع الجديد من الدراسات "التحليلنفسية" تساؤلات عميقة حول طبيعة الكائن البشري، وحول طبيعة الخبرات الأساسية مثل القلق واليأس والحزن والوحشة والعزلة واللانظامية، ويتناول بشكل محوري إشكالية الإبداع وإشكالية الحب. 

ماذا على الإنسان أن يفعل حتى يجد نفسه ويحدد وجوده؟ وبصيغة أدق ما هي الإكراهات التي تحول دون أن يختار الإنسان وجوده الخاص؟ إنه لسؤال نابع من واقع مرير غدا لصيقًا بالإنسان المعاصر نتيجة فقدانه لحسه الوجودي إثر تنامي الاتجاهات الجماعية collectivisme والامتثالية التي تطبع الثقافة الحديثة.

ليس العالم الذي نعيش فيه سوى بنية من العلاقات التي شاركنا في تشكيلها بوعي أو بدون وعي. نحن من صنع تلك القيم والأحداث الماضية البالية والمؤثرات الحتمية التي أصبحت مساوية لوجودنا وعائقًا أمام تشييد هويتنا الخاصة. إن مجرد وعينا بوجود تلك المؤثرات والأحداث لدليل على أننا نحن من صاغها وشكلها وركبها.

يهدف العلاج النفسي الوجودي إلى وضع حد للقلق الذي يرافق الإنسان المعاصر باستمرار، والذي يهدده بفقدان وجوده الحتمي، أي ذلك الوجود المرتبط بالمؤثرات والأحداث الماضية والمنظومة القيمية والمتوارثة، وذلك انطلاقًا من مراهنته على خلق إنسان جديد بالمعنى "النيتشيوي" للكلمة (نسبة إلى نيتشه)، إنسان يقوى على تحسين مردوديته الوجودية باستمرار انطلاقًا من تطور انبثاقي يتخطى من خلاله الماضي ويتسلق الحاضر ويصل إلى المستقبل، إن هذا العلو والتجاوز جزء لا يتجزأ من الوعي الإنساني. 

لكي نكذب يتوجب أن نكون في نفس الوقت على علم بأننا نتخطى الحقيقة وننأى عنها

وخير مثال للعلو هو قدرة البشر الفريدة على أن يفكروا ويتحدثوا بالرموز، فأنت حين تتعهد بشيء ما أو تعد به يفرض مسبقًا أن لك صلة واعية بذلك. وهو شيء يختلف تمامًا عن السلوك الاجتماعي المبني على التكيف الغفل. وعن العمل وفق متطلبات الجماعة الحيوانية أو قطيع السوائغ أو خلية النحل. يقول جون بول سارتر: "إن الكذب أو التضليل شكل سلوكي يتفرد به الإنسان. الكذب شكل من أشكال العلو أو التجاوز فلكي نكذب يتوجب أن نكون في نفس الوقت على علم بأننا نتخطى الحقيقة وننأى عنها".

تتأسس سيرورات الفهم لدى المحلل النفسي الوجودي على فرضيات أساسية تتعلق بمصدر القلق الذي يعاني منه المريض، إذ يفترض العلاج الوجودي أن المريض يعاني من القلق، وأن هذا القلق ناشئ من صراع وجودي ما، وأن هذا الصراع لا شعوري بدرجة ما، وأن المريض يتعامل مع القلق بمكانيزمات دفاعية واهنة تكيفية قد تتيح له انفراجة مؤقتة من القلق لكي لا تلبث في النهاية أن تعوق قدرته على أن يحيا حياة مليئة ومبدعة، وتكشف عن أنها لم تمنحه إلا مزيدًا من القلق الثانوي. وعلى المعالج أن يساعد المريض على أن يشرع في صياغة برنامج استكشاف ذاتي يهدف إلى فهم الصراع الشعوري واللاشعوري، وأن يتعرف على ميكانيزمات الدفاع الفاشلة ويكتشف تأثيرها المدمر. وأن يخفف القلق الثانوي بأن يصحح خرائطه المعطلة في التعامل مع الذات ومع الآخرين، وأن يتبنى وسائل جديدة من أجل التغلب على القلق الأولي. 

يركز المعالج النفسي على الطرائق التي يسلكها المريض في تجنبه للمسؤولية، ذلك لأن كل مريض مسؤول عما يحل به من قلق. من هنا فما إن يشم المعالج النفسي رائحة تنصل المريض من المسؤولية حتى يقاطعه ويفاجئه بعبارات مثل: لا تقل لا أستطيع، قل إنك لن تفعل هذا الشيء، نقول أن اللاشعور هو مصدر هذه السلوكات، لا شعور من هذا؟ على المريض إذن أن يتحمل مسؤولية مشاعره وأقواله وأفعاله فلا الجينات السيئة ولا الحظ العاثر ولا اللاشعور يتحمل مسؤولية قلق المريض بقدر ما يتحملها هو. وبالتالي فإن العلاج النفسي الوجودي يركز على خبرة الوجود أو خبرة أنا موجود، وعلى الثقافة التي يعيش فيها المريض ودلالة الزمن وأهميته، وذلك الجانب من الوعي الذي ينعت بالعلو أو التجاوز.

اقرأ/ي أيضًا:

قراءة سيكولوجية في المشهد الطائفي السوري

إنسان بلا ماركة لكنه باهض التكلفة