15-يناير-2016

نزوح لــ عاصم الباشا/ سوريا

وصلنا عصرًا.. أنزلنا أغراضنا وحقائبنا، وجلسنا مع المهرب في بستان صغير لا يبعد كثيرًا عن الحدود التركية، أمامنا مباشرة ساتر ترابي وحرس الحدود التركي "الجندرمة". شرح لنا المهرب كيفية عبور الحدود، كان شرحه مملًا بالنسبة لي كوني اعتدت على عبور الحدود تهريبًا: "قبل غروب الشمس نقترب من سكة القطار والخندق الترابي". أشار بيده جهة الحدود التركية "ثم سننزل إلى الخندق وعندما أعطي الإشارة لكم... تركضون بسرعة إلى تلك القرية القريبة خلف الحدود ستجدون سيارة توصلكم إلى كراج مدينة كلس".

فمنذ إغلاق الأتراك بداية 2015 لمعبري باب السلامة وباب الهوى آخر معبرين رسميين بيد المعارضة من أصل ثمانية معابر مع تركيا أغلقت تباعًا، فقد عدد من السوريين أرواحهم برصاص الجندرمة التركية خلال محاولتهم عبور الحدود التركية بطريقة غير شرعية.

كما فقد عدد من الناشطين والإعلاميين حياتهم أو تعرضوا للاعتقال أو الضرب من قبل الجندرمة خلال عبورهم من وإلى سوريا لتغطية الحرب هناك، وغالبًا لا يتم توثيق ضحايا الجندرمة بسبب التركيز على مشهد الموت في الداخل السوري.

جلست مع رفاق الرحلة التي حملتنا من مدينة الحسكة، شرق سوريا، إلى نقطة الراعي الحدودية شمال حلب. ومن خلال الأسئلة الكثيرة على الحواجز "من أين أنتم؟ إلى أين ذاهبون؟ مع من تلك المرأة؟ أين محرمك يا أخت؟ أعطني إثبات الزواج ...." كونت فكرة عن الأحد عشر راكبًا جميعهم.

جلس بجانبي الرجل الخمسيني، كان طوال الطريق يحدثني عن فترة اعتقاله في سجن صيدنايا العسكري لمدة أربعة عشر عامًا وكيف دخل شيوعيًا وخرج إسلاميًا، كانت برفقته زوجته وزوجة ولده وحفيديه طفلة في السادسة وطفل في التاسعة من العمر تقريبًا.. سيحاولون بعد وصولهم تركيا الوصول إلى ابنهم في ألمانيا عن طريق البحر. وتعتبر مرحلة عبور الحدود التركية هي الأخطر والأصعب بالنسبة للاجئين خلال رحلتهم باتجاه دول أوروبا. في الجانب الآخر جلس عروسان من حلب مع حقائبهم الأربع الكبيرة تزوجا حديثًا أثناء نزوحهم في الحسكة ثم قررا اللجوء إلى تركيا بعد سوء الأوضاع في الحسكة.. الزوجة كان اسمها إلهام، حفظت اسمها عندما ركز حاجز تنظيم الدولة في منبج على ثبوتيتها وأوراق زواجها من هذا الشاب الحلبي.

وتوزع باقي الركاب بالقرب منا: الشاب الفلسطيني الصامت والحزين طوال الرحلة، رجل من دير الزور مع عائلته، وشاب من القامشلي.

سألنا المهرب الثلاثيني إن كنا بحاجة إلى حمالين لتجاوز الحدود، لم يكن معي سوى حقيبة صغيرة، والرجل الخمسيني الذي بجانبي لا يحمل سوى حقيبتين صغيرتين، بينما طلب العروسان أن يكون معهما حمال لحمل حقائبهم الكبيرة وتجاوز الحدود. لم يتأخر الحمال بالوصول إلينا.. كان شابًا تركمانيًا من منطقة الراعي سأل عن الحقائب وعندما أشار الشاب الحلبي إليها، جرب حمل كل منها على حدة.. وقرر أنه لن يتمكن من حمل سوى اثنتين فقط منها بسبب ثقلها وأنه سيأخذ على الحقيبة الواحدة 1500 ليرة سورية.

ويبدو أن الشاب الحلبي فكر بتقليص الحقائب إلى ثلاث، يحمل هو واحدة والحمال اثنتين، فقام مع عروسه باستخراج الأغراض وإعادة ترتيبها لتصبح في ثلاث حقائب فقط. وبما أن غالبية الأغراض كانت عبارة عن "مختصر" لجهاز العروس حاول الجميع التظاهر بالنظر إلى الحدود ليتمكن العروسان من ترتيب أغراضهم الخاصة على راحتهم.

كنت قريبًا منهم، استرقت النظرات على أغراضهم: ملابس نوم، شراشف ملونة وبيضاء تصلني رائحتها الجميلة، مناشف، ألبسة شتوية، وسادتين مزركشتين برسومات حمراء، بطانية بنية اللون، طقم رجالي وربطة عنق يبدو أنه طقم العرس، علبة عطر شكلها يوحي أنها عطر نسائي لم أكن متأكدًا، كيس فوط نسائية، مغلف شفاف يبدو أنه أوراق وشهادات دراسية، صورة متوسطة الحجم للعروسين مؤطرة بإطارٍ ذهبي، دبدوب صغير وجميل عبارة عن باندا، أخرجته العروس فجأة من بين الأغراض ويبدو أن الزوج تفحصه جيدًا وكأنه يشاهده للمرة الأولى.. سألها عنه.. لم أسمع صوت العروس الخفيض.. سمعت كلمة صديقة.. تأمل العريس الطويل لدب الباندا يوحي بأنه لم يصدق جوابها، كنت ألاحظ ارتباك العروس وهي تحاول ترتيب الأغراض بسرعة كيف ما اتفق.

بعد أن تم اختصار الحقائب إلى ثلاث بالاستغناء عن البطانية وبعض الملابس. وضع العريس دب الباندا بجانب البطانية على الأرض في إشارة إلى الاستغناء عنه. 

كان الغروب في نهايته، اشتعلت أضواءٌ خلف الحدود، كان كل شيء مكشوفًا أمامنا لولا الخندق وساتره الترابي وشريط الحدود الطويل المراقب من الجندرمة التركية بشكل دقيق جدًا.

قطع المهرب انتظارنا بالتحرك باتجاه الساتر الترابي قبل الحدود وبالفعل حملنا أغراضنا.. حمل الحمال حقيبتي العروسين وحمل العريس الحقيبة الأخرى، بينما حملت العروس دب الباندا وضمته إلى صدرها النحيل. قطعنا سكة القطار المهجورة، وجلسنا من جديد قرب الساتر الترابي بانتظار إشارة المهرب للدخول إلى الخندق ومن ثم العبور.

لم تتأخر إشارة المهرب بعد أن عبرت دورية الجندرمة التركية، وكان من المفترض أن ننزل الخندق ونعبره بسرعة، إلا أن المهرب صرخ بنا فجأة: العقرب! في إشارة إلى دورية تركية ثانية لم تكن في حسبانه، وتعرف هذه السيارة بتجهيزاتها الدقيقة وهي مزودة بكاميرات ليلية عالية الدقة. وبالفعل تجمدنا في مكاننا بانتظار أن تذهب العقرب ونستطيع العبور.

انتظرنا في الخندق لا أعرف كم دقيقة لكن الوقت كان طويلًا وثقيلًا جدًا، خندق طويل جدًا وبعمق 2-3 أمتار، الأضواء المسلطة على طول الحدود تكشف هذا البرزخ الغريب والمليء بقصص وحكايات من عبروا من حرب وخوف إلى أمل في حياة أفضل. لكنهم في تلك اللحظات المأزومة سقطت منهم بعض الأغراض، ولا يكون هناك وقت للالتفاف إليها، بسبب الخوف من رصاص الجندرمة التركية. يبدو أن من يغادر الوطن يسهل عليه التخلي عن أشياء كثيرة.

أغراض كثيرة: بعضها مرَّ عليها فصول طويلة، بطول السنوات الدامية التي مرت على السوريين يمكنني أن أرى حولي: شال نسائي مغبر، فردة حذاء رياضية على حوافها طين يابس، حقيبة نسائية زهرية، حقيبة أطفال ملونة، رضاعة طفل، كيس يبدو أنه كان يحوي طعامًا قد فسد، شاحن نوكيا، وصلة يو إس بي، شحاطة عليها علم ألمانيا..

تجاوزتنا "العقرب" بقليل، التفت إلينا المهرب: "هيا".

لم يخرج نصفنا بعد: الشاب الحلبي والرجل الديري وعائلته، الشاب من القامشلي، الرجل الخمسيني وزوجته وكنته وحفيده، وبينما كنت أرفع حفيدته له بدأ إطلاق نار مفاجئ. جلسنا في الخندق. ركض من تجاوز الخندق إلى الطرف التركي هرب المهرب عائدًا إلى سوريا. ترك الحمال الحقيبتين في الخندق وعاد مع المهرب. لم أكن أعرف ماذا أفعل! كانت إلهام تبكي بخوف وهي تحمل الباندا إلى صدرها بسبب عدم تمكنها من الخروج من الخندق والركض مع زوجها.

وصلت الدورية فوقنا تمامًا وتوقف إطلاق النار كنا نسمع صوت الشاب الحلبي فقط، يبدو أن الدورية أمسكت به وهو يحاول العودة إلى عروسه، ثم أصبحنا في دائرة أضواء كثيرة تحاصرنا وهم يصرخون علينا: Suriye'ye geri dönün "عودوا إلى سوريا".

حملتُ الطفلة معي وخرجتُ من الخندق عائدًا إلى سوريا، أنا والشاب الفلسطيني الحزين وإلهام ودب الباندا، وبقيت كل حقائبنا في الخندق. بينما انفجر الشاب الفلسطيني بالضحك فجأة وقال: للمرة الأولى أجرب طعم العودة.

اقرأ/ي أيضًا:

أغصان الدالية في عبوة بلاستيك

لأنّكَ معي أيُّها الحُبّ