04-أغسطس-2015

مشهد من NO EXIT

في مبنى جميل بـ"جاردن ستي" وسط القاهرة، حيث يقع المركز الإبداعي"أوزوريس" الذي يضم "تياترو"، الفرقة المصرية للمسرح المستقل، يستقبلك المخرج عمر المعتز بالله (1980) في مكتبه الأنيق، بجداره الأخضر وديكوره الغارق بالكتب. بملامحه الهادئة وجسده الذي يعكس حرصه على ممارسة الرياضة، يرفع الستارة عن عالمه الفني، والتجربة التي مكّنته من أن يسطر اسمه بصورة استثنائية في فن صعب، يعيش ظروفاً متردية، مثل المسرح. 

تتبنى مشروع المسرح المستقل، ما معنى الاستقلالية هنا؟

المسرح المستقل إعادة إحياء لأبي الفنون بعيدا عن رعاية القطاعين الحكومي والخاص

وضع المسرح في مصر تحت مسميين: المسرح والمسرح الحر. عندما نتحدث عن الاستقلالية فنحن نتحدث عن شيء مادي، وعندما نتحدث عن الحرية نحن نتحدث عن شيء معنوي وغير ملموس، وبشكل أكثر تحديداً نتحدث عن الفكرة. في أوائل الثمانينيات، لظروف كثيرة مرت بها البلاد، أصبح هناك توجه، بخطوات صغيرة لكن مستمرة، باتجاه المسرح المستقل، وكما قلنا بمعناه المادي، وهو إعادة إحياء أبي الفنون بعيداً عن رعاية القطاعين الحكومي والخاص، وإذا استطعنا أن نضع هذه الخطوة في جملة أكثر تحديداً، فنحن نتحدث عن استقلالية المسرح لاستعادة حريته الفكرية.

لكن أي مشروع يحتاج إلى تمويل حتى يستمر، أليس كذلك؟

هذا صحيح، في البداية كان فترة الثمانينات تعتمد على التبرعات المالية لمجتمع المثقفين، هذه الآلية أفسحت مجالاً لمسرح الهواة، وعلى الرغم من أهمية هذه المرحلة في فرز الممثل الجيد أو السيناريست الجيد، أو مصمم الديكور الجيد وغيره، إلا أنها تشكل عائقاً في ظهور المسرح المستقل لسبب هام جداً يتمثل في "الديمومة"، لكن مع الوقت أصبح هناك حاجة لتمييز المسرح المستقل عن "مسرح الهواة" الذي يعد نَفسَهُ قصيراً.

في التسعينيات، بدأت مرحلة استعانة "المسرح المستقل" بالمنح المالية التي تعلن عنها السفارات الأوروبية والمراكز الثقافية العالمية في القاهرة، وهو أمر مستمر حتى يومنا هذا. وهناك من يعيب على هذه المنح المالية وكثير يعتبرها "ثقافة مأجورة". كان لا بد من هذه النشأة الجديدة حتى نستطيع "بعث" أبي الفنون مجدداً، فالدولة المصرية على مدى العقود الست الماضية حوّلت الفنان المنتمي للمسرح إلى "موظف بيروقراطي" بساعات عمله الثمانية، وراتبه التقاعدي، يبحث عن لقمة العيش لا عن حقيقة إبداعه. المسرح المستقل أنقذ الفنان من هذه المصيدة. 

اسكتش للمعتز بالله
اسكتش لـNO EXIT

كما أن المسرح لدينا، ذهب باتجاه طريقين، الأدلجة، خاصة في عهدي الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات، والاتجاه الثاني بات يتحكم فيه الجانب الترفيهي الباحث عن الإيرادات، وهو الذي تلّخص بالمسرحيات الكوميدية التي مثلّها نجوم مثل عادل إمام ومحمد نجم وغيرهم. وهو ما بات يطلق عليه اسم "المسرح الخاص"، هو عرض وطلب في النهاية خاص بمزاج السوق والسياحة الخليجية وغيرها. هناك بالطبع المسرح العام، وهو تابع للحكومة، وهو للأسف "يجتر" ذات كلاسيكات "شيكسبير" وغيرها، الأمر الذي كان له دور في تراجع جمهوره من ناحية، وتوقف نمو في الإخراج والإضاءة والمكياج والديكور، ومن ناحية أخرى، هذه السياسة حدّت من خيال المسرح، كما حدّت من الموهبة الفنية للتمثيل.

حدثنا عن بداياتك.. كيف شققت طريقك في عالم المسرح؟

أسست تياترو مصر للمسرح المستقل عام 2003، العرض الواحد يحتاج تحضيراً لعامين كاملين، وأراهن أن يتمكن هذا العرض من التجوال في العالم، ليس بالضرورة أن نحقّق الربح بقدر ما يهمنا تغطية تكاليف إنتاج المسرحية، هذا يضمن لنا الاستمرار. عروضنا مساحة للتعبير غير ربحية. عندما أنهيت الثانوية العامة بنجاح، طلبت من أمي أن تعيلني عاماً آخر، قبل أن ألتحق بالجامعة. في هذه السنة، سافرت إلى 12 بلداً حول العالم، وقرأت عشرات الكتب في المجالات كافة، علم النفس، وتفسير الأحلام، وفن التمثيل، والروايات العالمية. في تلك الفترة كنت أحرص على أن لا يقدم لي أحد النصائح، فقط كل ما أريده هو أن أحظى بـ"مساحتي الشرعية لممارسة ما يصنف على أنه غلط حتى أعمل ما هو صحيح".

أنت درست الفنون التشكيلية، ما الذي قادك إلى المسرح؟

أنا بارع في الرسم منذ الصغر، لذا دخلت كلية الفنون الجميلة. في فترة الجامعة يصبح سؤال الهوية ملحاً، والموضوع بالنسبة لي أخذ منحى أكثر رهافة وحسية لأني في حقل يستنبط هويته من الثراء البصري والجمالي. عادةً ما ينجر الشباب إلى هوية غيرهم، ويقلدونها. ما حدث معي هو العكس، إذ أني ببساطة نظرت إلى مرآتي، فهمت تاريخي والحضارات التي مرت على هذه الأرض وبدأت أفهمها وأستنبط منها أفكاري ومشاريعي الفنية.

في الجامعة، بدأت خطواتي الحثيثة باتجاه المسرح، واشتركت مع مسرح الجامعة بعدد من العروض الطلابية. لكن الدائرة المفرغة التي كنا نمثلها من نصوص مسرحية مكرورة  لم تخرج منها العروض، جعلتني أفكر: لماذا لا أبتدع نصوصاً خاصة بي؟ وتذكرت أنه في طفولتي كنت أحلم بكوابيس كثيرة، وحتى أتخلص منها، شجعتني جدتي على أن "أرسمها". وهنا استطعت أن أمزج موهبتي وتخصصي في الرسم، وإعادة إنتاج كوابيسي وأفكاري على الورق، قبل أن أحركها على المسرح.

يبدو أنك متؤثر بطريقة معكوسة برسم كرافاجيو، أليس كذلك؟

بصراحة كنت ألقب "كرافاجيو" في الجامعة، وكنت بصدد كتابة رسالة الدكتوراة عن أعماله الفنية، لكني كتبتها عن تاريخ الفنون الفرعونية. هو كان يصمم مسرحيات في مرسمه كي يرسم، وأنا أرسم كي أصمم المسرحيات.

في مسرحيتك الأخيرة اخترت سارتر، لماذا؟

تأثرت كثيراً بعلم النفس، وعليه فأنا لا ألقي بـ"أحلامي وكوابيسي في سلة المهملات"، أرسم اسكتشات حتى على وسادتي، على الجدران، في كل مكان. أتمعن فيها وأنقلها مع الوقت على خشبة المسرح. ولذلك فأنا أحتاج وقتاً لرسم الشخصية، ووقتاً آخر حتى اختار الشخصية، قبل أن يصبح العرض من لحم ودم وإضاءة وموسيقى. ومع تجوالي حول العالم، وحصولي على عدد من الجوائز، بدأت أقرأ في الصحف وصفًا مكررًا لأعمالي وهي "مسرحيات تناقش أزمة الإنسان مع الوجود"، وهذا بدوره قادني إلى فك طلاسم هذا التوصيف، وطبعاً وجدتني في حضرة الفلسفة الوجودية وعرابها جان بول سارتر، وأخرجت له "NO EXIT"، وهي من أشهر أعماله ومعروفة عربياً باسم "الأبواب المغلقة"، وحصلت فيها على جائزة "مهرجان الشباب المبدع – Jeunes" .

لديك طريقة في عروضك وطريقة في تقديمها.. حدثنا عنها؟

المسرح طقس، أكثر منه فرجة مدفوعة بتذكرة

أتعمد تأخير العرض لمدة 10 دقائق أو 15 دقيقة كحد أقصى، أفسح للجمهور أن يلتقط أنفاسه ويخلع عن كتفيه كل ما علق به من ضجيج الشارع، وتكدير العمل، ورنين الموبايل، ثم أثري بصره بالإضاءة وأدغدغ سمعه بالموسيقى، وفي اللحظة التي أشعر أن هناك وحدة كاملة، عندها أقول: "تعالوا نروح مع بعض للمكان دا.. المسرح طقس، أكثر منه فرجة مدفوعة بتذكرة". بالتأكيد لدي قناعة أن الذوق هو ما يقدم للناس، وتجربتي في عرض "أوركسترا البلكونة" دليل حي على ذلك، عملنا عرضاً مسرحياً بملابس النوم، وكنا نستأجر "شقة ببلكونة" ثم نخرج المغنيين والعازفين ليبدعو أغاني إديت بياف، أو موسيقى موتزارت أو بتهوفن، أو حتى أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم. 

تأثرت كثيراً بردود الفعل الشعبية، فمثلاً طلبنا من سيدة في الشارع بـطنطا أن تحضر الأوركسترا، فسألت عن ثمن التذكرة فقلنا أنها مجانية، فما كان منها إلا أن استئذنتنا في أن تذهب لمنزلها لتغيير ملابسها "ما يصحش أحضر أوبرا وأنا بالهدوم دي"، آخر يهمس لصديقه: "دي الأوبرا الي بتدفع تذكرتها 100 جنيه في القاهرة، أهي جتلك لحد عندك يا عم وببلاش".

في بوسترات عروضك تكتب بالخط العريض "صنع في مصر"، هل من رسالة ما تريد إيصالها؟

في تجوالي الأوروبي، كثيراً ما كانت هناك ردود فعل مشككة في "مصرية" العرض، وكثيرون قالوا صراحة إنهم ليسوا معتادين على هذا المستوى في العروض المسرحية المصرية، من يومها وأنا أصر على كتابة "صنع في مصر" بالخط العريض في ذيل "بوستر" المسرحية. ردة الفعل هذه منطقية في ظل الإهمال الذي تشهده الساحة المسرحية في بلدنا، أصر مجدداً أن الذوق هو ما يقدم للجمهور، وإذا أردت فناً جيداً أبدأ بـ"أبيه" أولاً.