24-يناير-2016

إدوار شهدا/ سوريا

كنت أشتري من كشكٍ في الطريق حين صاح سائق سيارة أجرة: "باكيت فايسروي وواحدة سادة"، وبعد برهة صمت -في أذني وحدها على أقل تقدير- قلت له: "أنا كمان بدي فايسروي".

لم أكن أعرف أنّ هذا النوع من التبغ لا يزال يباع في الأسواق، وبطبيعة الحال كنت أجوب شوارع كثيرة عندما كان يتصل جدي ويطلب مني أن أحضره وأنا ذاهبٌ إليه، أو عندما يجبرني أبي على الذهاب إليه والمكوث عنده لفترات محددة كنوعٍ من برّه بأبيه والذي يقوم به عن طريقي ليكفّر عن ذنب غيابه، ومن هنا تبدأ الفكرة فدعكم مما سبق.

كانت جدتي تقول إن الله قطع قدم جدي ليكفر عن ذنوبه، وعندما أصيب جدي بالشلل النصفي كنت أمضي معه الأيام وأسأل جدتي: "ألم ينته الله من تطهيره"؟!

لكنها لم تكن قادرة على إعطائي جوابًا مقنعًا كما لم أستطع أنا أيضًا فهم الأمر، عرفت مؤخرًا أن نظرات جدي إلى جمال جارتنا كانت من الأشياء التي على الله أن يطهره منها قبل أن يموت كي لا "يتعذب" في قبره، إلا أنّ جدي ظل ينظر إلى تلك المرأة دون كلل بل وينتظر نوم جدتي ليلًا كي ننظر أنا وإياه سويةً إلى الأفلام.

كنت أشعر بكثير من الملل عندما أذهب مرغمًا إليهم، أساعد جدي بحاجاته وأستمع لمديح العائلة بأنني أفضلهم، وأن الله يحبني كما يحبني جدي، لكنني كنت أسأل نفسي أيحبني الله لشيء أقوم به مجبرًا؟ حسنًا لم أعد أسأل هذا السؤال عندما أصبح علي أن أحب الله في صلاتي دون أن أعرفه، وعندما أقنعوني أنّ إيماني باطلٌ إن لم أستطع أن أحب نبيي أكثر من نفسي.

لم يقولوا لي شيئًا عن الله كي أحبه، ولم يقولوا لي من هو محمد الذي عليّ أن أحبه أكثر من نفسي، وكنت أشعر بالصدمة عندما أسأل المتدينين من عائلتي عن النبي والصحابة وأصحاب المذاهب لأعرفهم أكثر، فكانوا يكتفون بذكر بعض المعجزات المضحكة والكرامات المسلية، ولم أفهم كيف عليّ أنا الطفل أن أوسع خيالي وأن أحب هذه الكائنات الخيالية التي لم يعجبني تصورها كما أرادوها.

مع مرور الوقت وتدهور حالة جدي المرضية، أصبحت أحب الجلوس عند جدي، أحبه دون أن يعطيني أبي نقودًا بدل بقائي، وتوقفت عن عدّ القصور التي بنيت لي في الجنة، حسنا كنت أقايضها أحيانًا فأسرق من بقالة جدي القليل من البسكويت وأقول لله أن يخفض من عدد القصور إن شاء. كنت أحب أن أرى فيه نفسي وكيف سأكبر مع كل ذاكرة العجز تلك التي ورثني إياها، هو الذي سماني على اسمه وأورثني تصرفاته وفقًا لأقوال العائلة. يربكني حتى الآن بأنهم يعتقدون أن جدي عمل الكثير من المصائب وأنّ الله يطهره منها، ثم يستطردون في نفس اللحظة بأنني أنا الذي أشبهه أفضل من على البسيطة! لم أستطع يومًا أن أركب الصورة في رأسي!

كنت أرى جدتي مستنزفة تمامًا فأسأل لم عليها أن تتحمل كل هذه المسؤولية والثقل وحدها وتقوم بكل ما تقومه لجدي في مرضه، فكانوا يبررون هذا العذاب بأنه رضا الله عليها، إذ إنّه يبتليها لأنها امرأة جيدة ولا تفعل أي شيء سيئ ودعوتها مستجابة، لكنّ الله يبتليها الشدائد ليرفع من درجاتها، مرةً سألتهم، ماذا إن رفضت وأرادت فقط أن تكون امرأةً جيدة، فقالوا إنها ستصبح سيئة إن رفضت هذا الابتلاء.

حسنًا، المصائب تطهرك إن كنت سيئًا وترفعك إن كنت جيدًا، أقنعت نفسي بهذه الجملة لمدة طويلة، للحظة التي مات فيها جدي وأنا في الثالثة عشرة من عمري ولم أبك عليه.

كنت عند قبره، بل كنت أكثر من قام بخدمة معزيه لأنني اعتقدت بأنه سيسعد بذلك، لكنني فعلت كل ذلك دون بكاء، حتى أنني في اليوم الثاني للعزاء تابعت حلقة من المسلسل المكسيكي الذي كنا نتابعه سويًا في السابق.

لقد أرادوا أن تصبح العلاقة مرهونة لما ستأخذه وما سيسحب منك سماويًا وأرضيًا، حسنًا العلاقة مع كل شيء هي علاقة مصلحة، "بزنس"، وعليه لم أبك، حتى عندما كبرت واستدعتني الذاكرة لكل التفاصيل الجميلة بعلاقتي مع جدي، حاولت ألا أبكي، في الليل عضضت على يدي كي لا أصرخ، وأريد الآن أن آخذ له التبغ الذي لم يفارقه في أسوأ حالاته، حتى عندما فقد القدرة على سحب النفس وطلب من غيره أن يدّخن وينفخ في وجهه.

لو استطعت الآن أن أصل إلى قبره، لأخذت سيجارة ونفختها عليه مع أني لا أحب التدخين، لكنه يحبه، وهذا يكفي!

اقرأ/ي أيضًا:

قصائد للجوعى

عودة الباندا