19-سبتمبر-2015

سير الحضارات الإنسانيّة لجميع الشعوب لم يُعرَف إلّا بالأعمال الفنيّة بأسلوبها الواقعي (ألترا صوت)

نستطيع أن نقول إن عبد الرزاق شبلّوط هو القطعة النادرة في العالم العربي باشتغاله على "الواقعيّة المفرطة"، ويمكن لأيّ مشاهدٍ للوحاته أن يسألَ السؤال الدائم: "هل هذه صورة فوتوغرافيّة أم أنّها رسم؟" نعم، الدهشةُ من حقّ الجميع، وهذا أساسًا صلب مهمّة الواقعيّة التي جاءت ثورةً على الرومانسيّة في القرن التاسع عشر، ولا يمكن بحالٍ أن يكون الفنّ لجميع الناس مهما كان مستواهم الثقافي والمعرفي إلّا عن طريق الواقعيّة، لأنّه أسلوب قائم على وصف السلوك البشري والبيئة اليوميّة، لذلك واجهت التكعيبيّة والتجريديّة والسرياليّة مشاكل كثيرة عندما تطرّقت للحديث عن الفقراء مثلًا، فلا يمكن الحديث عن مشكلة تخصّ الناس بلغة لا يفهمها الناس بل تفهمها نخبة معيّنة.

السؤال الذي يرافق مشاهد لوحات عبد الرزاق شبلوط: "هل هي صور فوتوغرافيّة أم رسم؟"

إلّا أن الواقعيّة وخاصّة التي يشتغل عليها شبلّوط، ليست فقط نقل الواقع كما هو، أو الحِرفيّة العالية في تقليد الواقع كما تراه العين ليصبح على شكل لوحة، ولا هي فقط آليّات الرسم الأكاديميّة كالمنظور والأشخاص والتشريح والظلّ والضوء والنسب، بل هي روحُ الفنّان وذاته، وهنا تتغلّب الواقعية المفرطة على أساسها القديم (الواقعيّة) لتضيف لهذا الاتجاه طابعًا ذاتيًا، وعلى ذلك يضع أوتو لودفيج مفهومه: "الواقعيّة تريد أن تعبّر عن عالم تكون فيه العلاقات أوضح ممّا هي عليه في العالم الحقيقي، ولا بدّ من أن تعبّر عن الجوهر الداخلي للأشياء".

 إلّا أنّ هذه الذاتيّة التي تحملها لوحات شبلّوط، تستهدف توكيد الدوافع المجرّدة المحرّضة لتصرفّات الناس ونشاطاتهم التي تعتبر أدنى من أن تصلح كموضوعات للإبداع التشكيلي، كعلبة السردين مثلًا أو كيس البندورة، أو جواز السفر، أو كلمة "حريّة"، وهذا أيضًا ما ذهب إليه ثيمس أند هدسون في قاموس الفن والفنّانين: "الواقعيّة مصطلح يستعمل عادةً بمفهوم عام، بمعنى الأمانة للحياة"، وهي نقيض للتجميل والتشويه والمثاليّة، لأنّها بالأساس قامت لنقل الواقع من منظور آخر لا تغييره، وإن كانت تدعو إلى ذلك تاريخًّيّا لكنّها ليست من يغيّره، مهمّتها أن تفتح الباب لرؤية الحقيقة ثمّ ربّما يكون التغيير.

واقعية شبلّوط ليست طبيعية، بمعنى، أنّ أبناء المدرسة الطبيعيّة المنبثقة عن الواقعيّة كانوا يصوّرون المناظر الطبيعيّة بريشتهم ويقدّمونها على أنّها أعمال واقعية، نعم، في الشكل والجمال نعم، لكن في القيمة لا، فالفنّان الذي نقل الظواهر الكونيّة والطبيعيّة والفيزيائيّة التي اكتشفها العلماء والبيولوجيّون هو بشكل أو بآخر خضع للقوانين الطبيعيّة، إلّا أنّ فنّه لم يشكّل طبيعةً بحدّ ذاته، فإذن؛ الواقع هو ليس فقط المجرّدات التي تحيط بنا والموجودات خارجَ وعينا الإنساني، الواقع هو كلّ الحالات والمشاعر والأحداث الموضوعة في سياقها الزمني وما رافقها من حركة أيضًا، في لوحته "مخيّمات"، لا قيمة لعلبتيّ سردين فارغتين لوحدهما، ولا لظرف رسائل كتب عليه العنوان الحقيقي لوالده المعتقل في سجون النظام السوري، ولا قيمة لجواز سفر تمّ رسمه بدقّة تزويرية خرافيّة، لا قيمة لكلّ هذه الأشياء بدون الفكرة، أي كيف جعل من هذه الأشياء التي لا قيمة لها فرادى، عملًا فنيًّا بأثرٍ إنسانيّ يتحدّث عن أهل الخيام، عن السوريّين ككلّ، وكيف يمكن لذكرياتهم أن تصبح خيمة، ولجنسيّتهم، ولكتبهم، ولتفاصيلهم، ولصورهم أن تكون كذلك، وكيف تتحوّل الخيمة لحدث شموليّ أقوى من وجودها المادّي.

 لم يُرِد شبلوط للخيال أن يصبح واقعًا، إنما أراد أن يقدّم وواقعًا يفوق الخيال

عبد الرزاق في معرضه الشخصيّ الأول المقام حاليًا في مدينة ديورن في ألمانيا (افتتح في 14 الشهر الماضي ويستمر حتى اليوم)، برعاية من عمدة مدينة ديورن ومؤسّسة هاينرش بول التي تستضيفه في إقامة إبداعية، لم يشأ أن يقدّم أعماله كلّها التي تنوّعت بين التعبيري والانطباعي والواقعي، وبين اللوحات الزيتيّة والمائيّة والتي يرسمها بحبر الجوز، إنّما عرض أعمال الواقعيّة فقط، التي تتقاطع في موضوعها مع ذات الفنّان وذاكرته، مع سوريا ويوميّاتها التي يشدّه الحنين لها، لذلك كانت لوحة "ناطرك عالعشا"، التي تمثّل طاولة طعامًا بسيطًا فيه الخبز السوري وعلبة سردين -من تلك التي لا نجد مثلها في ألمانيا- وبندورة وبصلة وليمونة وصحن صغير من الملح وإبريق ماء وآخر للشاي مع كأسين صغيرين؛ الفكرة أنّه يستطيع أن يرسم خبز "البروتشن" الألماني بالتأكيد، وكؤوس النبيذ الفاخر، إلّا أنّه أراد أن يرسم السوريّين، حياتهم وملامحهم، فكلّ الوجوه التي رسمها سوريّة، كل هذه الوجوه والتفاصيل شكّلت هويّته وذاكرته ومراحل حياته، لم يُرِد للخيال أن يصبح واقعًا، إنما أراد أن يقدّم لنا وجوها حقيقية، وواقعًا يفوق الخيال بجماله.

في لوحته "ورشة عمل"، يصرّ شبلّوط على الدهشة، الدهشة كردّة فعل متوقّعة لاقتراف فعل النظر، ويجمع عدّة مدارس في عمل واحد، لوحةٌ بحبرِ الجوز، تحتها لوحة بألوان مائيّة، وأخرى زيتية انطباعيّة، مع فنّ الخط العربي على ورقةٍ مكتوب عليها بيت شعر عن دمشق، وكلمتي "سوريا وحريّة"، بالإضافة إلى جملة "إنّها دمشق يا أولاد ..." للكاتب السوري فادي عزام، وأدوات الرسم الخاصّة به وعلبة السردين الحاضرة كثيرًا، وثلاثة كتب مرسومة بشكل دقيق جدًا، وكلّ هذا ضمن لوحة واقعيّة مفرطة في واقعيّتها تتجلّى هنا جماليًا بألوان زيتيّة بتقنيّات المائيّ والحبر وقلم الخطّ العربيّ، هنا وتحديدًا بالإشارة إلى هذه اللوحة، يمكننا القول إن سير الحضارات الإنسانيّة لجميع الشعوب لم يُعرَف إلّا بالأعمال الفنيّة بأسلوبها الواقعي، وهنا تظهر قوّة الإدراك الذهني فضلًا عن جلال المعنى والفكرة، تلك التي يفهمها الإنسان البسيط من خلال وضوحها ونقائها وكمالها وجمالها الذي لا يحتاج إلى شرح وترجمة، هذه الواقعيّة التي لم ولن تلقى اهتمامًا في الأوساط السلطويّة ومريديها، فهؤلاء يريدون واقعيّة تزيينيّة خاصّة بالديكتاتوريّة تجلّت في بورتريهات ومنحوتات للقائد وأبنائه، ويريدون أيضًا إطارًا مرتبطًا بالاستقرار والثبات لا يتعارض مع مصالحهم، يحافظ على الصور المطمئنة التي لا وظيفة لها سوى التأكيد على التحاقهم بنخبة البلاد.

جاءت تجربة عبد الرزاق شبلّوط في الواقعيّة المفرطة لتقول إنّه ليس عدسة كاميرا تكرّر ما ترى، إنما هو إنسانٌ ينتمي إلى عصر خاص، وشعب خاص، وله مزاج خاص، وأحلام خاصّة، وشكل حياةٍ خاص، وتفكير واعتقاد خاصّين، وكلّ الأشياء الخاصّة هذه تشكّل العام الذي يرى ويعبّر من خلاله، لوحاته تشترك جميعها في إيجاد واقعٍ أكبر بكثير من مجموع علب السردين، وكؤوس الماء، والطاولات والألوان وحبّات البندورة، والأشياء الأخرى القابلة للوزن والقياس، واقع شبلّوط تحدّده نظرة الفنّان الفرديّة والاجتماعيّة، ومجموع الواقع هو حصيلة العلاقات بين الذات والموضوع، وهو لا يشكّل الماضي فقط، بل المستقبل أيضًا، وهو لا يشكّل الأحداث فقط، بل التجارب الذاتيّة والأحلام والأحاسيس الداخليّة والانفعالات والتخيّلات أيضًا، وعلى ما سبق يخرج إلينا أثر فنيّ يجمع بين الواقع والخيال والدهشة.