17-ديسمبر-2015

ينقل الصحافي مشاكل الآخرين إلى منزله وتؤثر على نفسيته كثيرًا (Getty)

قصص مثيرة ولافتة لواقع مرير، نهايات مأساوية لبدايات كانت جميلة، فالحلم كبر مع سعيدة، 45 سنة، قبل ربع قرن من الزمن، أملًا في أن تكون صحافية لامعة. دخلت سعيدة عالم الصحافة من أبوابه الواسعة، كان يحدوها أمل النجاح وصنع مسار متألق في مهنة نبيلة، ولكن النجاح كانت ضريبته باهظة الثمن والمسار كان أصعب مما تصورته، "فالصحافة مهنة تأخذ أكثر مما تعطي، وتمنح أقل مما تأخذ من العمر"، تقول سعيدة.

هوس بلا نهاية

الصحافة مهنة تأخذ أكثر مما تعطي، وتمنح أقل مما تأخذ

هي واحدة من قصص صحافيات جزائريات سحبتهن أحلام اليقظة بعيدًا، ليجدن أنفسهن يوميًا محاصرات بين الواقع الحقيقي والمكاتب الفارهة والمغلقة، وفي النهاية ينجرفن نحو نفق مظلم نهايته انهيار عصبي، هذا هو وضع سعيدة.

"ليس كل ما يتمناه المرء يدركه"، بهذه الكلمات اختصرت الصحافية سعيدة، السنوات التي قضتها في عالم الصحافة، سنوات لا تمحى من ذاكرتها، بكلمات قاسية تسرد المأساة التي أوصلتها إلى المستشفى، ودفعت بها إلى حالة من الإحباط اليومي والكآبة. تقول سعيدة لـ"ألترا صوت": "لقد أصبحت حياتي عبارة عن كوابيس يومية، تعذبني في نومي وفي يقظتي. كنت شديدة الحرص على المعلومة، واللهث وراء الخبر الذي يمكن أن يتصدر الصفحة الأولى من الجريدة التي أشتغل فيها".

وتواصل حديثها بألم كبير وهي تتذكر وجع السنوات الماضية، فحكايتها بدأت في سنة 1992، تاريخ صدور جريدة جديدة باللغة العربية، ومعها بدأت مغامرة سعيدة في العمل الصحافي الشاق، تشرح: "كان علي أن أجد في البحث عن أخبار يومية متميزة وحصرية، في جو كانت فيه المنافسة هي شعار الصحافيين وفي ظل ظروف مهنية واجتماعية صعبة جدًا".

بدايات المرض

تحول الهوس الإعلامي المتزايد لدى سعيدة إلى متاعب في الصحيفة، كانت تغضب عندما تجد موضوعها الذي اجتهدت لأجله قد حذف ولم ينشر أو تم إهماله في الصفحات الداخلية، بل وأكثر من ذلك عندما تجد رئيس التحرير قد مارس سلطة الرقابة والمقص، تغضب وتحتج دون أن تدري أنها ستكون الخاسرة في النهاية. دفعها هذا الوضع إلى عالم الاكتئاب وتعاطي المهدئات من فرط آلام الرأس التي أصبحت تراودها يوميًا، وتحولت الهواجس إلى وساوس تلازمها أيضًا.

الإرهاب.. الدم.. المعلومة

مرت سنوات وكأنها يوم واحد، بالنسبة للصحافية نبيلة، 46 سنة، تستذكر يومياتها وسنوات أليمة قضتها في مهنة الصحافة في زمن الدم والدموع والإرهاب، حيث أكدت أنها كانت صعبة جدًا. تخرج من منزلها بمنطقة الحراش، بقلب العاصمة الجزائرية، ولا تدري متى ترجع إلى البيت. تقول: "نحن من تجرعنا ويلات الإرهاب والخوف واللهث في الشوارع بحثًا عن المعلومة لكن في النهاية أصبحت المهنة لكل من هب ودب".

الخبر الأمني كان الزاد اليومي الذي تتغذى منه، وأصبحت الجريدة تعتمد على الأخبار التي تتلقفها نبيلة من مصادرها الأمنية، في وقت كان هذا النوع من المعلومات العنوان الرئيس للصحف خلال فترة العشرية الدامية في الجزائر. الغريب أن الصحافية كانت تشتغل نهارًا في الصحيفة وليلًا في تجميع المعلومات حول الحوادث ذات الصلة بالإرهاب .

أخبار الدم فعلت فعلتها السلبية في نفسية المتحدثة لـ"ألترا صوت". تقول: إنها "تحولت من نقل الأخبار إلى تغطية المجازر والتفجيرات، كنت أصل أحيانًا إلى مواقع التفجيرات الإرهابية والمجازر قبل وصول سيارات الإسعاف، وكنت أرى جثث وأشلاء القتلى وكذا الجرحى، وبقع الدم"، مشيرة إلى أن صور الدم أدخلتها إلى عالم الجنون" وأصبحت تؤرقها، وتحولت حياتها إلى كوابيس مخيفة، هي اليوم تركن في بيت عائلتها بلا أفق.

ثمن الكتابة عن آلام الفقراء

تحول هوس الحصول على المعلومة إلى وسيلة للاستفادة المادية، وهذا ما أحال سمية، 43 سنة، اسم مستعار، إلى انحراف أخلاقي خطير، إثر استخدامها للمهنة النبيلة من أجل الربح المادي على حساب آلام الفقراء ممن يقدمون لها شكاويهم من نقص الإمكانيات في محاولة لإيصال مطالبهم إلى المسؤولين عبر الصحافة.

أصبحت سمية اليوم منبوذة من الجميع في تلك المنطقة الصغيرة التي تقطنها، بل وخسرت معها كل شيء، حيث دخلت في صراع يومي مع السكان والجيران وحتى أساتذتها وأقاربها لأن سمعتها أصبحت في الحضيض. وهي تعاني مؤخرًا من أمراض عديدة نفسية وعضوية، سببها العزلة عن الآخرين، وحالة الاكتئاب الدائم والقلق غير الطبيعي، وأصيبت بانهيار عصبي مرتين، أدخلها الغيبوبة. هي اليوم دون عمل واجتهدت لتدخل صحيفة أخرى لكن محاولاتها باءت بالفشل لأنها فقدت سمعتها وفقدت معها بريقها الإعلامي الذي اتصفت به قبل أزيد من خمس عشرة سنة، هذا عمرها المهني الذي توقف على أسوار الفقراء؟.

من غرفة بالحي الجامعي إلى فراش المستشفى

سقطت أحلامها في الماء، بل وأصبحت تتحين الفرصة لتعبر عمَّا تعانيه في جريدة "صغيرة"، على حد تعبيرها، هي ترقد بإحدى مستشفيات العاصمة الجزائرية، لم تستطع الصحافية خديجة أن تنطق أكثر من جملة واحدة: "إياكم أن تصلوا إلى سن الأربعين ولا تحصلوا على مسكن خاص بكم"، هكذا وجهت كلامها إلى الصحافيين.

تعاني خديجة من آلام حادة على مستوى الظهر ولكنها كانت تعتقد أنها مجرد آلام بسبب هواء بارد. وخديجة، صحافية عاشت سنوات الدم والدموع وكانت تتنقل من حي خاص ببنات الجامعات إلى آخر، ليس لها مسكن ولكن كانت دار الصحافة هي بيتها وملجأها، كان هاجسها الأول والأخير هو تعرية الواقع في المجتمع الجزائري وكانت لديها علاقات إنسانية مع القراء ومع الزملاء والمسؤولين، كان قلمها بسيطًا ولكنه كان وجيهًا وحادًا. تعتز خديجة كثيرًا بالجائزة التي سلمت لها كأحسن "روبورتاج نسوي في البحر المتوسط"، ذلك ما تركته رصيدًا في بنك الصحافة.

تعددت الأسباب والنهاية واحدة

ينقل الصحافي مشاكل الآخرين إلى منزله وتؤثر على نفسيته كثيرًا

تعتبر كريمة مكتاف، المختصة في علم الاجتماع، أن "الصحافي مثل الطبيب، يعيش مباشرة مشاكل المجتمع، وهو ما يؤثر في حياته اليومية، بل وفي غالب الأحيان ينقل مشاكل الآخرين معه إلى المنزل". وأضافت لـ"ألترا صوت": "عايش معظم الصحافيين الجزائريين فترة تنامي العمليات الإرهابية وما خلفته من أمراض نفسية بسبب التهديدات اليومية بالقتل، ها هم اليوم يعيشون ضغوطات أخرى كأزمة السكن وضعف الأجور وعدم الاستقرار وما تخلفه على صحتهم العقلية والنفسية".

وأشارت إلى أن "أكثر الممتهنين للصحافة لا يعيشون حياتهم اليومية بشكل عادي، لأنهم مرتبطون بمواعيد وبعلاقات عمل وبمواد إعلامية يقدمونها في أوقات مختلفة". كما ذكرت أن "مشاكل الصحافيين الرجال أقل حدة من مشاكل الصحافيات، على اعتبار أن الصحافية تشهد ضغوطات كثيرة في العمل وفي محيطها العائلي والمجتمع، حيث تجد نفسها أمام عائق قبول المحيط بظروف عملها والضغوطات التي تمارس عليها من حين إلى آخر".

وكشفت دراسة حديثة أجريت عن "الانهيارات العصبية لدى الصحافيات الجزائريات"، وهي رسالة ماجستير في علم الإعلام والصحافة، أن الحالات كثيرة في الوسط الصحافي على اعتبار أن المرأة أكثر تأثرًا بمحيطها المهني من الرجل، لعدة أسباب فلديها ضغوطات في المكتب وخارجه وفي الوسط الإداري وفي الأسرة أيضًا. وتعرضت الدراسة إلى حالات الصحافيات اللواتي دخلن عالم الإدمان والانحراف بسبب الضغوطات اليومية، فبعد أحلام اليقظة التي راودتهن خلال السنوات الأولى من العمل يجدن أنفسهن قد فاتهن قطار الزواج ويدخلن في نفق مظلم.

أما حالات الانهيار العصبي فهي كثيرة. تتعرض الصحافيات لإحباط يومي وضعف مستوى الدخل يؤدي إلى قلق مستمر بل ويتحول إلى مرض نفسي. تقول نصيرة آيت يعلى، الأستاذة في علوم الإعلام والصحافة بجامعة الزائر، لـ"ألترا صوت": إن "تتحلى الصحافيات بالصبر لمواجهة كل الصعوبات بدءًا من صعوبة الوصول إلى مصادر الأخبار وهذا أول مشكل، إلى عدم تفهم المحيط العام لمهمتنا في ظل الظروف الأمنية التي عاشتها البلاد، وصولًا إلى الضغط المعنوي الذي يعشنه داخل المؤسسة الإعلامية". وتختم: ''ما أكثر الصحافيات اللواتي حلمن بسكن ووجدن أنفسهن على قارعة الطريق".

اقرأ/ي أيضًا: 

أزمة ثقة بين الجزائري وإعلامه

تونس.. حرية الإعلام في خطر وتهديد بالإضراب العام

أمن السلطة الفلسطينية يستهدف "العربي الجديد"