30-أكتوبر-2015

حكيم عاقل/ اليمن

في أيار.. قصفوا شارعنا، ومنازل الجيران، مات مارة وأقارب وأصدقاء وبترت أطراف، ومات نائمون كانوا يحتضنون زوجاتهم عند الظهيرة. حين هدأ القصف، هرعنا نلملم شتاتنا وبعض غذائنا إذ لا وقت للأكل، في الشارع الخالي، ثمة رجل يبحث عني، لا أعرفه لكنه بادرني: لديك مال؟، أجبت: ليس ما يكفي وليس اﻵن.. قال: ألديك كفن؟ تعجبت: لماذا؟ رد: مات أخي قبل ساعة بتلك القذيفة، أريد دفنه وليس معي كفن، ولا تتمة الثمن.
*

تركنا منازلنا ونزحنا، اعتصمنا بقريتنا الوئيدة، لم نكن نعرف أن جيران الحي هم ذاتهم جيران القرية الصغيرة، هل فرحنا ﻷنهم أقارب لنا، أم أسفنا ﻷننا لم نكن نعرف، أم غضبنا ﻷننا بلا عصبة تحمينا من عصابة الطائفة؟!
لا أعرف..
*

في قريتنا خزان ماء، نمد خرطومنا فيترقرق الماء نحيلًا كرباط حذاء، للفرد عشر دقائق أسبوعيًا، نحن النازحين كارثة على ما كان في القرية، تضاءل نصيب الفرد إلى نصف دقيقة! كل الأغذية التهبت أسعارها لقلة العرض وكثرة النازحين، الطريق وعرة والوقود منعدم حتى في المدينة، فكيف بواد كان القمح ينقل إليه باﻷنابيب لاستحالة "الوعور" إليه.

كان علينا أن نشرب من ماء الغيول الغريب، إن لم تستطع فأمامك خياران: أن تدفع خمسة وعشرين دولارًا للحصول على مقعد في السيارة الوحيدة التي ابتكر لها سائقها منظومة وقود بديلة بـ"الغاز" كي تصل إلى أقرب مدينة تجد فيها الماء، أو أن تسير راجلًا في أكثر الطرق الجبلية وعورة، ولمسافة اثني عشر كيلومترًا صعودًا ومثلها هبوطًا.. أخبرني حينها إن كان باستطاعتك نقل شيء أكبر من قنينة ماء معدنية وبعض الخضروات!

أصبح الناس غرباء أكثر، نفد الماء، بلغ اﻷمر ببعض اﻷسر حد أن تغسل مواعينها بما تبقى من الماء في إناء كبير، ثم تسكب الماء إلى قدر وتغليه جيدًا، تتركه يفتر، ثم تشرب لتروي عطشك بماء غسل المواعين!
أنا أيضًا لن أصدق لو لم تكن أسرتي من هذه اﻷسر.. لذا قررنا العودة للانشطار بالقذائف الرحيمة!
*

كل يوم نفاجأ باختفاء سلعة ما، بطبيعة الحال الماء والكهرباء انقطعتا نهائيًا منذ بدء الحرب وحتى هذه اللحظة، وكل محاولات إعادتها باءت بالفشل فمليشيا الحوثي وصالح جاهزة لقصف المحطات أولًا بأول.
أما البنزين والديزل فقد وصل الحال بشوارع المدينة ﻷن تفرغ أيامًا من المركبات والسيارات، إلا بضع منها.. فوق ذلك تفاجأ بأنهم يمنعون دخول الغاز ﻷيام.. والخضروات ﻷيام أخرى، وأصبحت روزنامة التقويم الميلادي مجدولة كل يوم أو بضعة أيام يمنع فيها دخول سلعة أو سلع.. جزئيًا أو كليًا.

في الشطر اﻷخير من أيلول/سبتمبر وما تلاه من تشرين اﻷول/أكتوبر، منع دخول مياه الشرب، في رحلته للحاق بآخر ما يوجد، سار أخي قرابة خمسة عشر كيلومترًا ليأتي بغالونين.. كل غالون أحضره من الطرف اﻷقصى من هذه المسافة.
بائع المياه المعدنية يضيف زيادة في أسعارها، التبرير جاهز: نستخدم فريقًا من الشباب لتهريب هذه العبوات منفردة في "المعابر".
*

حاول أشخاص ومنظمات إغاثة ورجال أعمال إدخال بعض السيارات التي تحمل خزانات مياه للشرب، قال شهود عيان ومسؤولون في هذه المنظمات أن عناصر المليشيا فرغوا هذه الخزانات في اﻷرض.. أحد السائقين حاول أن يكون أكثر ذكاء، قال لهم أن خزان سيارته به ماء غير صالح للشرب، وأنه ﻷعمال البناء، صعد المليشاوي على ظهر البرميل وفتح الغطاء ثم قال: "إن كان ما تقوله صحيحًا فلن يضره هذا" وبقذارة مستحيلة التكرار تبول فيه!
*

استوقفني جاري، ضرب قارورة الماء المعدني القارغة على اﻷرض "أقسم بالله العظيم لا توجد قطرة ماء في بيتي" قالها وكررها نصًا.. مرارًا.
*

قال صديقي: كانت الجريمة لدى الحاجز اﻷمني أن تهرب قنينة ويسكي مغشوشة، تدفع فيها دم قلبك، أما اليوم فقد أصبحت الجريمة أن تهرب قنينة ماء معدني!
*

أحضر أخي القات، حاولت تفحصه ﻷرى جودته فباغتني لا تتفحص ولا تعلق، "خزّن" به كيفما كان، صاحب هذا القات قتل أثناء تهريبه.

اقرأ/ي أيضًا:

رثاء متعثر بالضحايا

الحوثيون والكلاب