02-سبتمبر-2015

شلبية إبراهيم/ مصر

"هل ستعثر على شاهدة قبر أحلامك
أم شجرة أحلامك مورقة..؟!" 

* بشير مفتي

- لبعض الأحلام مسرات خاصة.
رميت حكمتك الأولى ببساطة ظاهرة، لا تتعارض مطلقًا مع براءة الأطفال في التلفظ بأول جملة في مراحلهم الحياتية الأولى.

بعض الأحلام تتلمس دربها جيدًا، وبعضها الآخر تتوه في دهليز وقد تظل ضائعة الهوية

ويلفظ فمي جمله المركبة بطلاقة بينما تقلصاته تشبه حركات مغنية أوبرا حاذقة في إطلاق صرخاتها، هكذا يختلج لساني الحالم، بينما يدي اليمنى تقلب في نوتة صغيرة ذات أوراق ملونة أريك إياها بافتنان كبير كيف أنني استثنيت كل لون منها لأحلام أتوقها حسب درجة حميميتها مني.. فالأصفر لأحلام بعيدة المدى.. نطقت ذلك باقتدار مفرط أشبه بعالم مسكون بعبقريته الفذة.. والأزرق لأحلام مسكونة بالطموح.. أما الزهري للأحلام التي تشاكس قلبي.. همست بذلك على مرأى منك ثم اختلجت العبارة بحياء لم أعرف كيف انفلت عنه.. بينما انفرجت شفتاك عن ظلال ابتسامة تمايلت على إثرها سيجارتك المطفأة بمرح على جانب الفم كبرج بيزا.
***
 
ولأنني كنت مهووسة بالأحلام، صرت أتخيلني في وسط دغل ممتد تحفّه أشجار جمة، من بينها شجرة ضخمة ذات أفرع أشبه بأصابع بشرية رشيقة، وكل منها على كثرتها معشبة كغابة، حين رسمت تلك الشجرة بمقتضى مخيلتي، دونت في أعلى الورقة عبارة "شجرة الأحلام "، وألصقتها على سبورة بيضاء اعتدت أن أدوّن عليها ملحوظاتي التي لا أريد لها أن تتعفن في قفص النسيان، وهناك صرت أرى شجرتي تترعرع كل يوم بطريقة غامضة وعلى غصيناتها جملة أحلامي التي تتكاثر شيئًا فشيئًا.

- وحدهم الدراويش أمثالنا لهم الحق المشروع في ترقيع أحلامهم، إن مزقتها روح طائشة أو داسها قلب مثقل بالحقد.
تطلقها وأنت ترشف بمزاج رائق شاي الأخضر الذي حضرته لك، واكتفيت لحظتئذ بالتماهي مع حكمتك كامرأة مبهورة بخاتم مطوق بالماس. 
***

في المقهى تقابلت وجوهنا مع تعامد الشمس فانعكست صفرتها على النافذة حيث قبعنا، فغدونا رأسين ملتهبين يتمايلان حينًا يمينًا وحينًا شمالًا، تبعًا لقوة الألفاظ التي كنا نعبث بها. وصرت أحكي لك عن حيز بعض أحلامي التي كنت أتخيلها أحيانا صغيرة بحجم كف اليد، أو كبيرة كساحة ملعب، أو التي تغدو فضفاضة كثوب امرأة بدينة أو ضيقة كأنبوب مص. وحين انتهيت من عرضي قلت لي بهدوء راهب: 
- لكن بعض الأحلام تتلمس دربها جيدًا، وبعضها الآخر تتوه في دهليز وقد تظل ضائعة الهوية لأعوام مهما بلغت سعة حجمها.
وحين نطقت بعبارتك تلك حدقت في عينيّ كلمحة خاطفة، ثم انكفأت ملامحنا تذوي رويدًا رويدًا في شهوة الظل، ملامحي وملامحك والنادل الذي وضع فاتورة الحساب أمامنا.
***
- نحن نحلم كي نوسع حصتنا من الحياة في بطن هذا العالم الجشع بشراهة حوت!
يومها تملكتني دهشة مفرطة، ها هي حكمة أخرى تحبو من فضاءاتك الشاسعة.

-  "لا"..
ردت سذاجتي بحماس من لا تزال متشبثة بسياسية تقفيص الأحلام.
لكنك ضاعفت الصاع صاعين حين أردفت مضيفًا: 

- لملمي أحلامك قد لا تكفي الحياة لها كلها.. بل قصي أجزاء منها لعلها تتحرر من قراصنة لا شغل لها سوى وأدها حبة حبة.
يومها وضعت يدي على قلبي، وعيني على الشجرة الوارفة بسيقان مزهرة يترشح عبقها أحلامًا مراهقة تبغي الخروج من قفص العبودية.
وحكمتك أسندت ظهرها على كرسي خشبي وطيء الأرجل وفي فمه سيجار مطفأ. 
***

- ما رأيك بحلم كنت وحدك ملكته ولكن في يوم ما خان مملكتك إلى أخرى؟ 
وكانت عيناك تقدحان مرارة لم أعرّهما التفاتا يذكر وقتئذ، غير أنك برعت بمهارة طبيب متقن لعمله في إطلاق خلجات نفسي؛ كي أثرثر في حضرتك عن سيرة أحلام كنت قد تكهنت في امتلاكها أخيرًا. وانتفخ بالون ثرثرتي حتى سقط سؤالك في أسفل حديثنا، فما عدنا نذكره كلانا..!
وعيناك ظلتا تلازمان بريقهما الحاد ولم أعرّهما اهتمامًا وقتئذ .. 
***
كانت شجرة الأحلام هي جلّ اهتمامي. كنت مفتونة بها. لفرط ضياعي في عظمتها لا أذكر كيف افتتحنا جلستنا اليوم بالتحديد..؟
يا ترى، ماذا قلت لي قبل ذهابك.. هذا ما عصي على ذاكرتي التقاطه..؟!
***
تتابع لا حضورك.. فانشغالاتي كركبت أوضاعي في الآونة الأخيرة.. إنني سعيدة بإنجازي.. تفرعت شجرة أحلامي.. أجل.. لقد أنجب كل حلم حلما آخر.. ما أكثر أحلامي.. ما أكبرها..!
لكن أين أنت..؟!
***

أتضاءل وأتضاءل ووحدها شجرة الأحلام تتضخم

صادقت الهدوء.. ولم تنطق بشيء طوال الوقت الذي كنا فيه معا سوى رد على تعليقاتي التي كنت أفرقعها بين الفينة والفينة.. وحدها شجرة الأحلام كانت ممتلئة بالكلام.
***

-  كيف هي أحلامك يا ربة الفيض..؟ 
لم تكن من عادتك أن تبتدئ أحاديثك بعبارات كاشفة كالتي أطلقت..! 
"كيف هي أحلامي".. "كيف هي أحلامي"..؟
صار صوتي يردد العبارة كببغاء.. 
والجواب................؟
***

غبت يومًا.. يومين.. عشرة.. 
ثم عدت.. 
وعقلي يتحيز سؤالًا منك.. عبارة ما.. 
لكن يومها أدهشتك شجرة أحلامي العملاقة..
وحين غادرتني خيل إليّ أن شجرة أحلامي كبرت مرتين..!
***

إنني أتضاءل وأتضاءل وأتضاءل ووحدها شجرة الأحلام تتضخم..!
تستطيل فضائي حيث أقف مذهولة من جبروت جذعها، من ضخامة أوراقها الحاملة لأحلامي التي سجلتها طوال تلك الأعوام، من ثمار أينعت حتى كادت ثمراتها المنتفخة من النضج أن تنفجر وتهطل مدرارًا من الأحلام، أحلام أنجبت أحلامًا، إنها متشابكة مع بعضها كأسلاك كهربائية ملتحمة بدرجة يصعب علي المرور عبرها، إنها تتعملق، أوراقها الخضراء كثيفة كشعر فتاة يسد علي أضواء المكان وأنا أتلاشى في وسط دغل مظلم، هممت بالصراخ، ولكن لا صوت، فضغطت على بلعومي الجاف بأظافري الحادة حتى خلفت خدوشا دامية الأثر كحبال حمراء رفيعة، أين أنا..؟! 
كل شيء يكبر.. وحدي أتخبط في محيط المكان.. مكان شاسع.. فإذا بي أرى شجرة أحلامي تكاد تلتهمني مشتعلة في نيرانها.. وأما اللاتي انفلتن من النار الهائجة كن شائخات كأنهن عشن ألف قرن.. كل واحدة منهن متحررة تفر بأنفة دون أن تعيرني أدنى اهتمام .. وكأني لم اسقهن من راحتي يومًا ما..! 

في ذاك القاع الخاوي.. كان ثمة حلم واحد فقط.. رغم وجع المسافة بيننا.. أفرحني استقلاله عن شجرة أحلامي المحترقة والفارّة..
وكان سيجاره هذه المرة مشتعلًا يتدلى..!