في يوم 9 تشرين الأول/ أكتوبر، أعلن وزير الطاقة الإسرائيلي عن قطع المياه عن قطاع غزة بشكلٍ كامل، قائلًا: "لن يتم فتح صنبور مياه" حتى إعادة الأسرى، وبعد ساعات من القرار خرجت مجموعة من جنود جيش الاحتلال، في "عملية" مصورة، من أجل إنجاز "المهمة"، وقطع مصدر المياه الأساسي عن القطاع المحاصر منذ 20 عامًا.
كان القرار الإسرائيلي، بمثابة محاولة قتل بطيء لمن لم يمت بالصواريخ، إذ قال وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث: "شبح الموت يخيم على غزة. بدون ماء ولا كهرباء ولا طعام ولا دواء، سيموت الآلاف. واضح وبسيط"، فيما يعني قطع الكهرباء أيضًا إيقاف محطة التحلية التي تعمل على الكهرباء.
كل ذلك دفع الناس في قطاع غزة، الذين يواجهون القصف العدواني، إلى خيارات يائسة، مثل شرب المياه المالحة، أو محاولة الحصول على مياه الآبار الزراعية الملوثة بمياه الصرف الصحي ومياه البحر. كل ذلك والطائرات الإسرائيلية تحوم فوقهم، وتحمل إمكانية موت مستمرة. فيما أصبحت حصة الفرد الواحد في قطاع تقترب من نصف لتر من المياه للشرب، وبحسب شهادات من غزة، فهي أقل فعليًا.
في يوم 9 تشرين الأول/ أكتوبر، أعلن وزير الطاقة الإسرائيلي عن قطع المياه عن قطاع غزة، قائلًا: "لن يتم فتح صنبور مياه" حتى إعادة الأسرى، وبعد ساعات خرجت مجموعة من جنود جيش الاحتلال، في "عملية" مصورة، من أجل إنجاز "المهمة"
القرار الإسرائيلي، يأتي ضمن سياق متشابك من السيطرة الاستعمارية الإسرائيلية، على كافة المصادر الأساسية للحياة، ما بين البحر والنهر، وهيمنة إسرائيل على المياه في قطاع غزة لديها سياق طويل نتجت عنه الوضعية الحالية، ورغم ظهورها في الوقت الحالي، بالشكل الأكثر وضوحًا، لدولة تحاول الانتقام من كل شيء في قطاع غزة.
تسليح المياه
في الأيام الأخيرة من شهر تموز/ يوليو الماضي، واحد من أكثر الأشهر حرارة في الضفة الغربية، حضر جنود جيش الاحتلال وعناصر الإدارة المدنية الإسرائيلية، إلى منطقة بئر ماء جنوب مدينة الخليل، ترافقهم آلية "مدنية". انتشر جنود جيش الاحتلال حول البئر وحضر خلاط الأسمنت، وسكب الخرسانة في ثلاثة آبار للمياه، فتحها أهالي المنطقة القريبة من مخيم الفوار للاجئين.
يتقاطع القرار الإسرائيلي بـ"تجفيف قطاع غزة"، وصب الأسمنت في الخليل، مع تحويل إسرائيل للمياه، منذ سنوات طويلة، إلى سلاح ضد الفلسطيني/ة، إذ كشفت دراسات أرشيفية عن قيام العصابات الصهيونية بتسميم آبار المياه أو ردمها من أجل منع عودة الفلسطينيين إلى منازلهم، خلال نكبة فلسطين عام 1948. فيما حضرت المياه في أولى قرارات الحاكم العسكري، عقب استكمال احتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967. إذ نص الأمر العسكري 92 الصادر في آب/ أغسطس 1967، على أن "كافة المياه الموجودة في الأراضي التي تم ’احتلالها مجددًا’ هي ملك لدولة إسرائيل"، شكل هذا النص العسكري، إلى جانب قوانين من الفترة الانتدابية وأخرى ما قبل 1967، الأساس لكافة القرارات المرتبطة في المياه.
وكانت المياه، حاضرةً في الفكر الصهيوني المؤسس، من كتابات ثيودور هرتزل وصولًا إلى ديفيد بن غوريون، واختلط التنظير لها، بالممارسة الاستيطانية ومحاولة نشر المستوطنات الصهيونية الأولى في محيط الأنهار ومنابع المياه، إذ كانت تصورات الصهيونية الاستيطانية تشمل السيطرة على منابع المياه في المنطقة، وبذلك لم تكن المياه، قضية فلسطين، بل سوريا والأردن ولبنان، بحسب ورقة للباحثة راما سبانخ. وهي قضية تشابكت، مع الطموح بالهيمنة الإسرائيلية على المنطقة، بالإضافة للحصول على سبل استمرار المشروع الصهيوني، الذي برز العمل الزراعي في بدايته، إلى جانب تحقيق الهيمنة المائية على المنطقة.
وتواصل إسرائيل هيمنتها على كل نقطة ماء تقريبًا في فلسطين، مما يزيد من هشاشة الفلسطيني، وتفاقم انعدام سيطرته على الموارد الضرورية للحياة. فيما تلتقي السيطرة على المياه، مع العنف الإسرائيلي اليومي والموسمي. فمثلًا خلال الحروب الإسرائيلية السابقة على قطاع غزة، تم تدمير حوالي 290 موقعًا للمياه والصرف الصحي والنظافة الشخصية، منها قرابة 170 موقعًا للبنية التحتية المرتبطة في المياه، فيما يعيش القطاع حاليًا العدوان الإسرائيلي الجديد عليه، والذي يدمر كافة سبل الحياة المتبقية. أمّا في الضفة الغربية، فقد دمر جيش الاحتلال أكثر من 755 منشأة مائية منذ عام 2010 وحتى عام 2021.
يضاف إلى ما سبق، الاعتداءات وعمليات السيطرة من قبل المستوطنين، على ينابيع الماء والآبار، ومنع الوصول إليها. إذ منحت إسرائيل الأولوية دائمًا للمستوطنين، ففي عام 1991، عندما جفت المياه في آبار الضفة الغربية، ضخت إسرائيل كميات كبيرة من المياه، من أجل إنقاذ الزراعة الإسرائيلية على حساب الفلسطينيين. وكانت هذه الأولوية تمنح حتى للبؤر الاستيطانية، التي يعتبرها القانون الإسرائيلي نفسه، غير قانونية.
أزمة من صنع الاحتلال
وفق سلطة المياه الفلسطينية، فإن معدل كميات المياه التي تنتج من الأمطار السنوية، التي تسقط داخل حدود الضفة الغربية تزيد على 650-800 مليون متر مكعب سنويًا، وإذا أضيفت إليها الحصة في حوض نهر الأردن والمقدرة بحوالي 250 مليون متر مكعب. فإن حجم المصادر المائية المتجددة تصل سنويًا إلى معدل 1000 مليون متر مكعب، وهذه الكميات تكفي لسد حاجة الفلسطينيين، في الضفة وغزة، لخمسين سنة قادمة بدون أية مشاكل، وعلى أساس 170 لترًا لكل فرد، مع القدرة على توسيع المساحات الزراعية المروية إلى أربعة أضعاف الوضع الحالي.
وتجمع التقديرات البحثية على أن الأزمة المائية، في بلاد وافرة بالمياه، من صنع "الإنسان" أو الاحتلال، وفي سياق حديثها عن صفقة شراء مياه محلاة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، قالت الباحثة منى الدجاني: "تخفي الصفقة حقيقة أن فلسطين تمر بأزمة مياه من صنع الإنسان، وليست أزمة مياه طبيعية. يصور المسؤولون الحكوميون، والمجتمع الدولي، والهيئات المانحة، بل وحتى الأدبيات الأكاديمية، افتقار فلسطين إلى الموارد المائية باعتباره أمرًا مفروغًا منه، نتيجة للظروف المناخية التي تعيشها المنطقة. ما تفشل هذه الروايات في معالجته هو أن ندرة المياه في فلسطين هي بناء اجتماعي وسياسي يحجب كيفية ترسيخ إسرائيل هيمنتها على موارد المياه، مما يؤدي إلى عدم المساواة الشديدة في المياه".
هيمنة على كل نقطة ماء
ترى التقديرات البحثية، أن فلسطين منطقة غنية في المياه، ومع ذلك تعاني من أزمة مائية هي والمنطقة المحيطة بها، تتفاقم في كل صيف، وهنا نقدم عرضًا موجزًا للأحواض المائية الموجود في فلسطين، ونسبة حصول الفلسطينين على المياه منها.
يُعدّ الحوض الغربي، من أهم الأحواض المائية الجوفية وأكبرها، ويبدأ من جنين حتى جنوب غرب الخليل، وتشكل معظم مصادره من مياه الأمطار، وقدرة الحوض 362 مليون متر مكعب سنويًا، 95% منها مصدرها الأمطار في الضفة الغربية، فيما تحصل الضفة الغربية على 16 مليون متر مكعب سنويًا من الحوض بما لا يتعدى 5.5% منه، وبحسب مدير عام جمعية الهيدرولوجيين الفلسطينيين عبد الرحمن التميمي، فإن إسرائيل أصبحت عمليًا وتقنيًا وفنيًا قادرة على السيطرة كل قطرة ماء في هذا الحوض نتيجة نشرها 500 بئر تشكل جزءًا مهمًا من النظام المائي القُطري الإسرائيلي.
يضاف له، الحوض الشرقي، الذي يقع في كامله داخل الضفة الغربية، ويضم كل مساقط المياه المنحدرة في اتجاه الشرق من مناطق شمال الضفة الغربية، وتقدر طاقته المتجددة بنحو 175 مليون متر مكعب، لكن قسمًا منه بنحو 55 مليون متر مكعب غير صالح للشرب أو الزراعة نتيجة الملوحة، ويحصل الفلسطينيون على 54% من طاقته المتجددة، وما تبقى لسلطات الاحتلال.
أما الحوض الشمالي الشرقي، فهو يقع شمالي الضفة الغربية، في جنين وطوباس ونابلس، ويمتد داخل سهل مرج ابن عامر، وتشكل أمطار الضفة الغربية 90% من إجمالي الطاقة السنوية المتجددة، والمقدرة بحوالي 135- 197 مليون متر مكعب، يحصل الفلسطينيون على نحو 33 مليون منها، أي ما نسبته 20% من طاقته المتجددة.
وحوض نهر الأردن، الممتد من الجليل الأعلى شمالًا إلى البحر الميت جنوبًا، هو حوض تمتلك فيه السلطة الفلسطينية حقوق المشاركة الكاملة، والانتفاع من تصريف نهر الأردن. وكذا في حوض البحر الميت، إذ يحق للفلسطينيين الانتفاع من ثروات البحر وإدارته وحمايته، لكن لا تحصل السلطة الفلسطينية على شيء فيه.
أمّا حوض وادي غزة، الذي تقع معظم مساقط مياهه داخل الضفة الغربية، ويصل إلى قطاع غزة، فتقيم إسرائيل منشآت مائية عليه وتضع الحواجز التي تعيق وصول المياه إلى القطاع.
يضاف لها الحوض الجوفي الساحلي، ويشمل المنطقة الساحلية من جنوب حيفا وصولًا إلى قطاع غزة والنقب وحتى الأراضي المصرية، ويتغذى الحوض من مياه الأمطار في الساحل وأودية وسيول الضفة الغربية، وتقدر طاقته بنحو 476 مليو متر مكعب، لكنّ يعاني الحوض من سحب مرتفع للمياه، مما يؤدي إلى زيادة نسبة الملوحة، فيما يحصل الفلسطينيون على أقل من 45 مليون متر مكعب، من الجزء الموجود في قطاع غزة، وهي أقل من 9% من طاقته الإجمالية السنوية.
كما يشار إلى حوض الكرمل، باعتباره "يشكل نظامًا هيدروجيولوجيًا موحدًا لمجرى مائي دولي مشترك مع مجاري الأحواض الجوفية الجبلية، وبالتالي للفلسطينيين حق المشاركة في موارد وثروات هذا الحوض والانتفاع منها"، وفق التميمي. فيما تستهلك إسرائيل كافة موارد الحوض المقدرة بنحو 47 مليون متر مكعب[1].
المياه حق للمستوطنين
اعترفت إسرائيل في اتفاقية أوسلو2 (الملحق 2، البند 40) في الحقوق المائية للفلسطينيين، وإلى جانب عدم التزامها في كافة النسب المنصوص عليها بالاتفاق وهي بين 70- 80 مليون متر مكعب، يضاف إليها 26.6 مليون متر مكعب سنويًا خلال المرحلة الانتقالية، دون تحديد أي نسب لإسرائيل، فقد أبقت إسرائيل جميع الموارد المائية في يدها، مع "تأبيد" الفترة الانتقالية من خمسة أعوام إلى 25 عامًا.
ويقتضي الاتّفاق أن تحصل إسرائيل على 80% من المياه الجوفية الجبلية المشتركة بين الفلسطينيين وإسرائيل فيما يحقّ للفلسطينيين أن يستغلّوا فقط 20% منها. كما اقتضى الاتفاق أن يشتري الفلسطينيون من إسرائيل 31 مليون متر مكعب إضافية كلّ سنة. ويستخرج الفلسطينيون الذين تضاعف عددهم منذ العام 1995 نحو 60% فقط من كمية المياه التي حدّدها الاتّفاق، بحسب منظمة "بتسيلم".
وتذهب السّلطة الفلسطينية إلى شراء المياه من شركة مكوروت الإسرائيلية بكميّات أكبر بكثير من تلك المحدّدة في الاتّفاق. وتفيد معطيات سُلطة المياه الإسرائيليّة للعام 2019 أنّ السّلطة تشتري من شركة مكوروت 93 مليون متر مكعب، خُصّص منها للضفة الغربيّة 79.6 مليون وخُصّصت الكميّة المتبقّية لقطاع غزّة. وثُلث كميّة المياه المزوّدة تهدر، إذ تتسرّب من الأنابيب بسبب تردّي حالة شبكة المياه الموصلة بين البلدات الفلسطينيّة في الضفة الغربيّة، وأعدّت السّلطة الفلسطينيّة خططًا لإصلاح شبكات المياه هذه، لكنّ إسرائيل ترفض الموافقة عليها، بحسب ما جاء في ورقة بحثية لـ"بتسيلم" بعنوان "تجفيف: سياسة التعطيش الإسرائيلية في الضفة الغربية".
كيف تسيطر إسرائيل على المياه؟
تتحكم إسرائيل في كافة الموارد المائية ما بين النهر والبحر فوق الأرض وتحتها، وتنفذ ذلك من خلال منظومة سيطرة تتشابك مع المستخدمة ضد الفلسطينيين. وتقوم هذه السيطرة على ضخ كميات كبيرة من المياه، وحفر عدد كبير من الآبار، مما يساهم في تجفيف ودمار عدد من الآبار والينابيع.
كما تمنع الفلسطينيين من حفر آبار جديدة، وتمتلك "حق" الموافقة أو الرفض لأي مشروع مائي جديد. يضاف إلى ذلك إقامة جدار الفصل، والذي تضم من خلاله عدة مناطق تحتوي على أحواض مائية[2].
وينفذ ما سبق، من خلال منظومة قانونية، تقوم في أساسها على القانون 92 الصادر بعد استكمال احتلال فلسطين، وينفذ من خلال ضابط المياه في الإدارة المدنية، الذي يصدر عشرات الأوامر العسكرية بشكلٍ سنوي، ويتحكم في تدفق المياه داخل الضفة الغربية، سواء للمستوطنات أو التجمعات الفلسطينية، ومنذ عام 2010 أصدر ضابط المياه 868 أمرًا عسكريًا، ترتبط في إنشاء شبكات مياه أو قطعها أو إعادة تأهيلها، يرتبط الكثير منها بأهداف استيطانية.
يضاف إلى ما سبق مشروع "الناقل القطري للمياه في إسرائيل" (منذ الستينات)، والذي يسيطر على مياه نهر الأردن، ويصل بها إلى صحراء النقب. كما تساهم شبكة المياه الإسرائيلية المتطورة، في تعميق السيطرة الإسرائيلية على المياه، مقابل الفلسطينية المتهالكة.
ويساهم إعلان عدة مناطق في الضفة الغربية، باعتبارها منطقة عسكرية، بمنع الوصول إلى مصادر المياه فيها.
وتمنع إسرائيل طوال سنوات الحصار، وصول معدات صيانة شبكات المياه والصرف الصحي إلى قطاع غزة، وتعمل على تأخيرها لأشهر طويلة، مما أدى إلى مراكمة الأعطال وحدوث تسريبات في شبكات المياه، والذي ينعكس ذلك كله على نوعية الشرب ومدى تلوث المياه، وصولًا إلى هشاشة الشبكة المائية في العموم.
كما تساهم لجنة المياه المشتركة، في إدامة السيطرة الإسرائيلية على المياه، حيث يشترط تقديم أي مشروع مائي في الضفة الغربية، عبر هذه اللجنة، وفي الوقت الذي وافقت فيه السلطة الفلسطينية على مشاريع تخص المستوطنات، فإن إسرائيل ترفض غالبية المشاريع المائية التي تخص مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية -في عام 2016 وافقت السلطة الفلسطينية على التخلي عن ’حقها’ في عرض مشاريع المستوطنات عليها-، بما في ذلك عملية ترميم شبكات المياه، من أجل الحدّ من الهدر والتسرب فيها، واللجنة الآن غير فعالة بشكلٍ جدي.
وتحقق جزء مما سبق، من خلال اتفاقية أوسلو، التي شرعنة سلب أكثر 80% من المياه المخصصة للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، باعتبار أن إسرائيل كانت سابقًا تسيطر على كافة مصادر المياه، كقوة احتلال وبموجب الأمر الواقع، فيما أصبحت هذه السيطرة تحصل عبر اتفاقية، يعتبرها العالم الأساس السياسي للتعامل مع القضية الفلسطينية.
المياه تروي الاستيطان
تظهر الأرقام، التفاوت واللامساواة العميقة في الوصول إلى المياه،[3] ويبلغ استهلاك الإسرائيليين للمياه ما لا يقل عن أربعة أضعاف استهلاك الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي الفلسطينية المحتلة. يستهلك الفلسطينيون في المتوسط 73 لترًا من المياه يوميًا للشخص الواحد، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى اليومي الذي توصي به منظمة الصحة العالمية وهو 100 لتر للفرد يوميًا.
ويصل استهلاك آلاف الفلسطينيين من المياه إلى 20- 26 لترًا للشخص الواحد، في قطاع غزة والمناطق غير الموصولة في شبكة مياه بالضفة الغربية. وعلى النقيض من ذلك، يستهلك الإسرائيلي حوالي 247 لترًا من الماء يوميًا (تصل إلى 400-700 لتر للمستوطن الواحد في الأغوار، دون احتساب الكميات المخصصة للزراعة).
وخلال الصيف الحالي، والذي يعد الأكثر حرارةً في العالم، خفضت إسرائيل واردات المياه، إلى الخليل وبيت لحم بنسبة 25% منذ منتصف حزيران وحتى أواسط آب/ تموز، وهي عملية تتكرر بشكلٍ سنوي تقريبًا.
ما يكشف عن الجوانب الاستعمارية في قضية المياه، هي أرقام الإنتاج الإسرائيلي لها، ففي عام 2020، أنتجت إسرائيل 2.4 مليار متر مكعب من المياه، وهو رقم سيرتفع بعد 30 عامًا إلى 3.7 مليار متر مكعب، خصص 50% من هذه الكمية للزراعة، و43% للاستهلاك المنزلي في إسرائيل، فيما تم بيع ما تبقى للسلطة الفلسطينية والأردن. في العام نفسه، كان تحت تصرف الفلسطينيين في الضفة الغربية، حوالي 239 مليون متر مكعب، أي عُشر ما تنتجه إسرائيل من المياه.
فيما يحصل 36% من سكان الضفة الغربية على إمدادات المياه الجارية بشكلٍ يومي، فيما يحصل 47% على إمدادات المياه أقل من 10 أيام شهريًا. وتهدر شبكة المياه الفلسطينية ثلث كمية المياه، مقابل 3% فقط في الإسرائيلية. وتنفق الأسرة الإسرائيلية حوالي 0.64% من دخلها الشهري على المياه، مقابل 8% من دخل الأسرة الفلسطينية (الرقم الفلسطيني من بداية الألفية، والإسرائيلي عام 2018).
وتقول منظمة بتسيلم عن كل ذلك "مائيًا، إسرائيل أصبحت قوة عظمى، تنتج كميات تعادل أضعاف التي توفرها الموارد المائية الطبيعية. هذه الأزمة هي نتاج متعمد، نابع عن سياسة إسرائيلية تمييزية واعية، ترى في الماء عنصرًا آخر في منظومة السيطرة على الفلسطينيين. إسرائيل تقرر كمية المياه المتوفرة ولمن، وتمنع تطوير قطاع مائي فلسطيني".
ماذا تعني السيطرة الإسرائيلية على المياه؟
للسيطرة الإسرائيلية على المياه انعكاسات على الحياة أو شكلها، وصولًا إلى الاقتصاد، ولكن من خلال مثال الشركات الاستيطانية العاملة في الضفة الغربية يمكن توضيح كيف ينعكس فقدان السيطرة على المياه في الضفة الغربية أو قطاع غزة على الفلسطينيين.
تعمل اليوم في الضفة الغربية، عدة شركات استيطانية، من بينها شركة مشك آحياه (Meshek Achiyah)، التي تأسست عام 2003، وتنشط بالقرب من مستوطنة شيلو شمال شرق رام الله، على أرضٍ مصادرة من الفلسطينيين. في عام 2017، تلقت الشركة الاستيطاني حوالي 100 ألف متر مكعب من المياه، أي 274 مترًا مكعبًا يوميًا (المتر المكعب = 1000 لتر) أي ما يعادل حصة 2740 فلسطيني.
وبحسب صحيفة الغارديان، في نفس العام، خصص لمصنع نبيذ في مستوطنة بساغوت قرب رام الله 17 ألف متر مكعب. وذهب 12 ألف متر مكعب أخرى، إلى أحد موظفي شركة مشك آحياه الذي بدأ مزرعة عنب خاصة به.
وتقول الغارديان: "إن نجاح شركة مشك آحياه، ونجاح العديد من مؤسسات المستوطنات الإسرائيلية الأخرى، سوف يكون مستحيلًا دون القدرة على الوصول إلى كميات متزايدة الضخامة من المياه التي تحتاجها الزراعة الفلسطينية في المناطق المعرضة للجفاف. ومع ذلك، وعلى الرغم من وجود خمسة أوامر إخلاء معلقة بشأن بعض الأراضي التي تسيطر عليها الشركة، والتي أيدتها المحكمة العليا في إسرائيل، إلا أنها لا تزال مرتبطة بإمدادات وكالة المياه الإسرائيلية". مما يعني أن سلب المياه المتواصل، هو عملية إفقار بنيوي للفلسطيني، وتدمير ممنهج لأي فرصة تنموية في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو تهديد مباشر للحياة كما يحصل الآن.
ومع وصول اليمين إلى السلطة في إسرائيل، أو إحكام قبضته عليها، حدثت "ثورة في مجال المياه لصالح المستوطنات"، إذ تم نشر خطوط مياه في كافة أنحاء الضفة الغربية في مشروع مستمر منذ أربعة أعوام، قدم على أساس حسابات تجعلها صالحةً وكافيةً حتى عام 2050، وبحلول عام 2040 سيكون هناك إمكانية لضخ 200 مليون متر مكعب، عبر شركات مكوروت الإسرائيلية للمياه. فيما تتحول مناطق وجود المياه، إلى مواقع ارتكازية للسيطرة الاستعمارية على المناطق المحيطة، بما يجعل مشاريع المياه اليوم، مقدمة لمشاريع واستيطان ونهب الأراضي مستقبلًا.
مياه أقل، تعني أيضًا مناطق زراعية أقل، فقد خسرت مناطق الأغوار الكثير من المياه، مما أدى إلى انحسار المناطق الزراعية والبحث عن محاصيل تستهلك كميات أقل من المياه، مثل مناطق عين البيضا وبردلة والعوجا، التي حفرت فيها شركة مكوروت الإسرائيلية للمياه الآبار بالقرب من ينابيع المياه منذ سبعينات القرن الماضي، مما أدى إلى جفافها أو تقليل حصة القرى منها، وأصبحت هذه المناطق تحت "رحمة" إسرائيل في الحصول على المياه.
ففي الأغوار مثلًا، حفرت إسرائيل 28 بئرًا في الحوض الفرعي الشرق للحوض الجوفي الجبلي، تنتج أكثر من 30 مليون متر مكعب من المياه سنويًا، يذهب 70% منها للمستوطنين على رغم من أن عددهم هو أقل من ثمن الفلسطينيين.
حول ما سبق، يقول مسؤول كبير سابق في الإدارة المدنية الإسرائيلية: "دعونا نضع الأمور على الطاولة، سياسة المياه تعتمد على ما إذا كنت يهوديًا أو فلسطينيًا. الفرق في المخصصات ولد مع تفضيل واضح للجانب الإسرائيلي".
"السلام".. تنازل عن الماء
كرست الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل مطلع تسعينات القرن الماضي، الحالة المائية القائمة في المنطقة، و"رغم الوعود المائية التي قطعتها إسرائيل للأردن في معاهدة السلام المبرمة سنة 1994، فإنها لم تفِ إلى الآن بأي منها. وفي الضفة الغربية، عملت إسرائيل على احتكار المياه من خلال لجنة المياه الفلسطينية-الإسرائيلية المشتركة المنبثقة عن اتفاقات أوسلو، حيث توافِق اللجنة على مدّ أنابيب المياه التي تحتاجها المستوطنات الجديدة في الضفة الغربية، وترفض مدَّها للقرى الفلسطينية، وهكذا يغدو الماء أداةً فعالة من أدوات الاستعمار أو حتى التطهير العرقي"، وفق منى دجاني ومارك زيتون.
والنقد السياسي على اتفاق أوسلو و"إعلان المبادئ بلا مبادئ"، فهو ينسحب على كافة الجوانب في الاتفاق، بما فيها المياه، إذ ساهم في تكريس السيطرة الإسرائيلية على المياه، وقام على "حسن نية تجاه الاحتلال"، مفادها أن "الإسرائيلي يستهلك المياه بحسب حاجته، والفلسطيني يحصل على المياه وفق حصة محددة ومحدودة، وأي زيادة له تأتي من مصادر مائية جديدة فقط".
ويقول مدير عام جمعية الهيدرولوجيين الفلسطينيين عبد الرحمن التميمي: "اعترفت إسرائيل بحق الفلسطيني في المياه في اتفاق أوسلو، لكنّ واقعيًا خسر مياهه".
ويوضح التميمي ذلك من خلال عدة نقاط، تتناول الإشكاليات التي ظهرت نتيجة اتفاق أوسلو، بالقول: "الكميات المخصصة من المياه بحسب الاتفاق 70-80 مليون متر مكعب، وكان من المفترض أن تبقى هذه الكميات حتى انتهاء الاتفاقية في 1999، لكنها ما زالت سارية حتى الآن، ولم تنفذ إسرائيل كل ما اتفق عليه في اتفاق المرحلة الانتقالية".
وعن الاعتراف الإسرائيلي ومدى جديته، أضاف لـ"الترا صوت": "إسرائيل اعترفت بالحقوق المائية الفلسطينية، لكنها لم تُعرف هذه الحقوق، وعند سؤال إسرائيل في اجتماعات اللجنة المشتركة ما هو معنى أو تفسير الحقوق، كان تفسيرهم أنه حق الانتفاع والاستعمال، وليس حق الملكية، أي أن الفلسطيني لا يمتلك مصادر المياه".
أمّا على مستوى التطبيق العملي والنهج الإسرائيلي في موضوع المياه، قال: "إسرائيل تتعامل مع المياه كسلعة، الآن تبيع إسرائيل للسلطة الفلسطينية 90 مليون متر مكعب، جزء منها مياه من الضفة الغربية وأخرى محلاة وعلى أسس تجارية. حتى في اتفاق أوسلو، العلاقة بين سلطة المياه الفلسطينية وشركة مكوروت هي علاقة على أسس تجارية، أي العلاقة ليست بين السلطة الفلسطينية وحكومة إسرائيل، بل العلاقة مع شركة. ومن يفاوض الآن شركة مكوروت الإسرائيلية، من منطلق سلعي".
وكما في قراءة الاتفاق سياسيًا، فإنه إشكالي من ناحية مائية، "إذ لم يذكر حقنا في نهر الأردن لا تصريحًا ولا تلميحًا. وتم تجاهل حق التعويض، فالحركة الصهيونية منذ 1930 تستهلك المياه الفلسطينية ولم تدفع أي مقابل لذلك كتعويض عن هذه المياه"، وفق عبد الرحمن التميمي، الذي كان مطلعًا على مفاوضات المياه حينها.
وبناءً على التشخيص السابق، أضاف التميمي: "هذا يقودني إلى استنتاج رئيسي، الآن إسرائيل لديها تقريبًا 300 مليون متر مكعب مياه إضافية لا تحتاجها، من محطات تحلية المياه من البحر، وهناك تصريح للمفوض الإسرائيلي للمياه شموئيل تال عام 2016، قال فيه إن هذا الفائض للفلسطينيين على أسس تجارية"، أمّا المياه في الضفة الغربية، أي الجوفية ونهر الأردن والينابيع، تذهب لصالح تطوير الاستيطان وتوسيعه، و"نحن نغرق يومًا بعد يوم في شراء الماء المياه من إسرائيل، وهي مخلوطة ما بين محلاة وأخرى من الناقل القُطري الإسرائيلي".
وفي مراجعة للتوقيع على اتفاق أوسلو، تابع التميمي، قائلًا: "الجانب السياسي لم يكن مهتمًا في قضية المياه، ولم يكن مدركًا لعواقبها، يعني التوقيع على اتفاقية تلزمك بكميات مياه، ولديك أزمة مياه في غزة ونمو سكاني عالي، فيما عامل الزمن وتأثيره لم يكن في حسبان الذهن الفلسطيني الذي وقع على البند 40 من اتفاقية أوسلو، وهذا يدل على جهل أو استهتار". موضحًا: "الآن الذي يحدث، إسرائيل غير ملتزمة بالاتفاق السياسي، وحتى اللجنة المشتركة غير موجودة، وإسرائيل تتعامل مع قضية المياه بمنطق الشراء والبيع، وموضوع الحقوق تآكل مع الزمن، ولا أحد يتحدث عنها، والجميع يتحدث كيف يمكن أن ندير الأزمة دون التوجه إلى حلول حقيقية".
وعن الحالة المائية في مناطق السلطة الفلسطينية، يقول: "نحن في إجهاد مائي ليس بفعل الطبيعة، ولكن بسبب ممارسات الاحتلال بشكل أساسي، بالإضافة إلى النمو السكاني، والتمدد العمراني غير المنضبط، بدون تخطيط مثلما يحصل من انتشار الأحياء والضواحي الجديدة في رام الله، بالإضافة إلى سوء استخدام وتوزيع المياه".
وعن ما ينتظر الفلسطينيين مستقبلًا، قال: "لن يكون هناك إلّا خيار واحد، وهو شراء الماء من إسرائيل، مثلما حصل في الكهرباء، وكميات المياه المشتراة ترتفع بشكلٍ مستمر".
وباعتقاد التميمي، فإن المفاوضات السياسية مع إسرائيل حول المياه، انتهت في الانتفاضة الثانية، وما تبقى من لقاءات ليس له أي معنى سياسي، وفعليًا فإن اللجنة المشتركة للمياه غير موجودة، واللقاءات مع إسرائيل تقتصر على المستويات الفنية وهي محدودة، ولا يطرح فيها أي موضوع سياسي، ويعود الأمر إلى اتفاقية أوسلو مرةً أخرى بحسب التميمي، الذي قال: "كان الخطأ الأساسي تجزئة قضية إنهاء الاحتلال، نحن الآن نتحدث عن إدارة مكبات النفايات مع إسرائيل، لا عن حقوق وطنية".
أمّا عن تجربة المفاوضات التي يعرفها التميمي، قال: "معظم ما طالب به الفنيين في المفاوضات المتعددة، لم يطبق ولم يرد في الاتفاق النهائي، هم لم يمتلكوا القرار وفوجئوا بالاتفاق، لأن ما وقع يختلف عن ما تم الاتفاق عليه ولدينا الأوراق والمسودات".
ويختم التميمي حديثه مع "الترا صوت"، بالقول: "إذا لم ننتبه إلى الحقوق المائية، ولم يعد الحديث عن سيادة الشعب الفلسطيني على مصادر مياهه، بما في ذلك نهر الأردن والحوض الغربي الذي تزعم إسرائيل أنه مشترك، وهو لا فنيًا ولا سياسيًا مشترك، سنصبح مجرد زبائن في شركات التحلية الإسرائيلية".
والأزمة في تحلية المياه في إسرائيل وادعاءات التقدم التكنولوجي كحل للمياه تتجاوز الواقع السياسي وتساهم في مفاقمته، وتقول الباحثة مني الدجاني، إن التقدم التكنولوجي في مجال المياه لتنمية المجتمعات مهم، ولكن "في حالة إسرائيل وفلسطين، فإن مثل هذه التقنيات تنطوي على دوافع واستخدامات سياسية".
اليوم، يستمر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وعادت المياه لتكون من جديد أحد أسلحة إسرائيل، في مواجهة أهالي قطاع غزة، ضمن خطة ترسم لتهجيرهم
الماء.. سلاح إسرائيل للتهجير
خلال عام واحد، هُجر ما مجموعه 1105 فلسطيني/ة، من 28 تجمعًا في الضفة الغربية، كان عنف المستوطنين السبب الرئيسي وراء ذلك. إذ هُجر جميع سكان أربع تجمعات وباتت خالية الآن، وفي ست تجمعات أخرى، رحل أكثر من 50% من سكانها منذ العام 2022 ورحل أكثر من 25% من سبع تجمعات أخرى.
وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فقد أفاد نحو 66% من التجمعات إلى أن قدرتها على الوصول إلى المياه تأثرت سلبًا بسبب عنف المستوطنين. و46% منها بأن المستوطنين عملوا على تلويث مصادر المياه التي يعتمدون عليها أو تخريبها أو الاستيلاء عليها.
اليوم، يستمر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وعادت المياه لتكون من جديد أحد أسلحة إسرائيل، في مواجهة أهالي قطاع غزة، ضمن خطة ترسم لتهجيرهم، أقله إلى جنوب القطاع من شماله، مما دفع وزير الطاقة الإسرائيلي للإعلان عن إعادة المياه، إلى جنوب القطاع فقط، وهو ما لم يتحقق فعليًا، مع استمرار إسرائيل في قتل أهالي القطاع من الجو، وتجفيف ما تبقى من مصادر للحياة على الأرض.
[1] عبد الرحمن التميمي، "المياه الفلسطينية من السيطرة إلى الضم"، (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2021)، ص 44-50.
[2] التميمي، المرجع السابق، ص 50-51.
[3] هيلل إلفر، "الأبارتهايد المائي: الاستخدام غير العادل والتوزيع غير المعقول للمياه في إسرائيل وفلسطين"، في: قضية فلسطين ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني- الكولونيالية الاستيطانية وإعادة تصور مستقبل المشروع الوطني- الجزء الثاني، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، ص101- 139.