02-يوليو-2016

مهند عرابي/ سوريا

كانت تجربتي الأولى مع الفقدان، رحل أخي الصغير حين كنت في الخامسة عشرة من عمري. حين رأيت جثته ممددة أمامي تجمّعت الدموع في عينيّ، أخرجوني من غرفة برادات الموتى قبل أن أقبّل جبينه، اعتقدوا بأنّني سأنهار أمام جسد أخي الصغير المُمدد على سطح حديدي بارد، أخي الذي كنت ألعب معه منذ يومين.

بكيت كثيرًا حينها، لكن، ولسبب ما، اعتدت غيابه بسرعة. لا أتحدث عنه كثيرًا، أخاف الحديث عن الراحلين. أخاف من ذاكرتي.

منذ أيام رحل خالد. بعيدٌ جدًا أنا، لا أستطيع أن أرى جثته ولا أن أقبل جبينه البارد. رحل العشرات قبله، كسرى، عماد، باسل…… كلّهم رحلوا دون أن أقبل جبين أيّ منهم. كلّهم رحلوا دون وداع.

وبقيت هنا على هذه الأرض أصارع قلبي المقبرة كلّ يوم حتى أستطيع الاستمرار. لكن لم أريد الاستمرار؟ لا أعلم.

وفي الصباح يشتّد الشوق ويجتاز الألم عتبة التحمل. في الصباح حين تستيقظ وحيدًا وترى السماء الرماديّة تشعر بأنّ الزمن لا يمّر وبأن عقارب الساعة لا تتحرك بالسرعة المعتادة بل إنّ حركتها أبطأ من دقات قلبي الذي يكاد يتوقف عن الخفقان كلّما رأيت صورة واحد ممن فقدتهم.

لا رثاء للراحلين، الرثاء لنا نحن -الباقين- هنا. نحن الذين لا نعرف لماذا نستمر. لا نعرف غاياتنا ولا نعرف الطريق. نحن الذين لا نعرف الهدف من هذه الدوائر التي تدور بنا. الرثاء لنا، ليأسنا وعجزنا وقصور فهمنا.

هذه ليست حالة من حالات الكآبة المنتشرة بيننا، صدقيني. هذا إيمان مطلق بالعدم الذي ندور حوله، الذي منه خُلقنا وإليّه نعود وتعود أعمالنا.

هذا العدم ليس نظرية صفريّة رياضيّة وليس بعدًا ميتافيزيقيًا. هذا العدم هو فراغ أتينا منه، وسنعود إليه، لا شيء بعد الموت، لا شيء قبل الحياة، كلّ شيء صدفة، وإلا لماذا مات خالد ولم أمت أنا. هذه نظرية لا تحتاج إلى إثبات ولا قدرة لي بتعليلها، إما أن تؤمني بهذا العدم أو لا، وأنا أفعل.

لا أعرف ما الذي أكتبه هنا، إنّها من المرات القليلة التي أشعر بها بأنّ النص يقودني، لا أستطيع التحكم بهذه الأفكار وبهذه الكلمات، أعلم بأنّ الجمل والمقاطع المكتوبة قد تكون بعيدة ومنفصلة لكن هذا خارج عن إرادتي.

أشعر بأنّ أفكاري أمواج تدور وأنّ هناك موجة حاملة لجسدي تطفو بي مع الهواء، لست تحت تأثير أيّ مخدر أو مسكر الآن، هي هذه الأفكار تأخذني وترمي بي هنا وهناك.

أحسّ بأطرافي الأربعة تطفو أمامي منسجمة مع هذه الموسيقى المكسيكيّة التي أسمعها. أراقب نفسي وأنا خارجي، وأنا خارج عن نفسي أرى نفسي، أرى نفسي وأنا أكتب... وأنا أشرب الماء... وأنا أنظر إلى هذه الكلمات وهذا الذي في خارجي يبتسم لهذا الذي في داخلي.

أفكر بالراحلين، أولئك الذين زرعوا ندبة على وجهي. ندبة ستبقى رغم المكياج الكثير. ندبة لن تزول بعمليّة تجميل. وأفكر بنا، أفكر بنفسي وبكِ.

هذا النص يتعبني وهذه الكلمات توجع رأسي، أحسّها كأمي حين كنت طفلًا كانت تمسك يديّ كي نعبر الطريق إلى الطرف الآخر من الشارع. أأشبّه هذه الكلمات بأمي أم أشبّه هذه الأفكار باليد التي تقودني إلى الضفة الأخرى؟ أين هي الضفة الأخرى؟ لا أعرف.

أرى وجوههم أمامي الآن. وجه أخي الذي افترضت بأنّني نسيته يتقدم وجوه الآخرين، أصدقائي.

أغمض عينيّ عليهم وأنام.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

رسالة حب أخيرة

الميّت وأهله