04-ديسمبر-2015

"دوّار السلاطنيّة".. حياة في قفص الموت(الترا صوت)

لا يتحدث لهجتهم ولا يعيش في نفس مستوى معيشتهم، فقر وتهميش وبطالة وإرهاب وأشياء أخرى، كان هذا محتوى مداخلة تلفزيّة، في سنة 2015، إعتبرها جزء من الجمهور التونسي صادمة، لنسيم السلطاني، أحد أقارب الراعي الذي اختطفته مجموعة إرهابيّة وقطعت رأسه وهو في سن 16 ربيعًا بجبل المغيلة بمحافظة سيدي بوزيد، في الوسط الغربي للبلاد التونسية.

في تونس قرى كثيرة بالدواخل القواحل خاصّة وحتّى على هوامش المدن الكبرى، تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة وتغيب فيها الدولة بشكل شبه كلّي

مشهد مؤلم تداعت له قلوب التونسيين لكنّهم سرعان ما تناسوه وعادوا إلى مشاغل أخرى عديدة منها العام ومنها الخاص، تناسوا أن وراء الصورة وبين سطور الكلمات التي أطلقها نسيم السلطاني، تكمن الأسباب الرئيسية للإرهاب نفسه فقد أوجز الشاب التوصيف ولخص المشكل بجملة تكررت كثيرًا منذ المخلوع مفادها أن "لا شيء يربط هؤلاء بالدولة سوى بطاقة التعريف الوطنيّة لمن قام باستخراجها".

فرق كبير بين الإحساس بمشاكل الناس وبين أن تعيش المعاناة وتتشاركها، ذلك ما يقيم الفرق بين ردّة فعل هذا وردّة فعل ذاك، فالمسألة ليست إنسانيّة بقدر ماهي أشياء أخرى أبعد من ذلك بكثير. ففي تونس قرى وأرياف كثيرة بالدواخل القواحل خاصّة وحتّى على هوامش المدن الكبرى، تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة وتغيب فيها الدولة بشكل شبه كلّي ومن بينها "دوّار السلاطنيّة" مسقط رأس الراعي الفقيد.

الأحد 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، إلتقيت بعض الأصدقاء في قلب شارع الثورة بالعاصمة تونس واتّجهنا إلى ساحة 14 يناير أين كان من المنتظر أن تنطلق رحلة إلى "دوّار السلاطنيّة"، سهر على تنظيمها أحد النشطاء التونسيين من المجتمع المدني لتقديم العزاء لعائلة الفقيد من جهة ولتمكين عدد من الصحفيين والنشطاء من ملامسة حقيقة الأوضاع المتردية هناك من جهة أخرى، ولعلها المفارقة فالمنظم، المعروف بمواظبته على التواجد في الساحات والشوارع كلّما كان هناك تحرّك يهمّ قضيّة عادلة من ساكنة مدينة المرسى التي تعتبر قياسًا بأرياف الدواخل مدينة في دولة أخرى تمامًا غير أنّ بذرة الإنسانيّة ترتبط بروح الإنسان لا بمكان عيشه أو نمط عيشه.

بتأخير ساعة وسبع دقائق، تحرّكت الحافلة نحو وجهتها في انتظار الالتقاء في الطريق بدوريّة أمن لتأمين وصولنا وقد كانوا في حالة استنفار، طلبوا منّا أن نلتقي عائلة الشهيد الراعي بمقر إداري في الجهة وعدم الذهاب إلى سفح الجبل لدواعي أمنيّة غير أنّ إصرارنا على الوصول، الذي زاد مع حضور "عمدة المنطقة"، والذي تبين أنّه من وجوه حزب التجمّع المنحل، قد انتصر في النهاية وقرروا مرافقتنا إلى هناك.

عند قمّة الجبل، راعي غنم يقف منتصبًا كأن الجبل قد ركع تحت قدميه، محتضنًا شعاعًا من الشمس قد اخترق الضباب لينعكس نوره على صفوف من نبات التين الشوكي، وعند سفح الجبل، أين نتّجه سيرًا تسع منازل وبعض دجاج وغنم وخلف كلّ بيت حمار فيه لساكنة المكان منافع من الحرث والركوب وأشياء أخرى. بات المشهد أمام الأعين لا عبر الشاشات المسطّحة.

كانت الصورة كاشفة فاضحة مفادها أنّ إرهابًا من فوق الجبل يهدّد هؤلاء وإرهابًا من نوع آخر تحت سفح الجبل يتهدّدهم بسبب انقطاع علاقتهم  بالدولة

على إحدى جنبات الطريق الوعر قطعنا طريقنا المرسومة بالعين. وأمام منزل الراعي الشهيد، المتكوّن من ثلاث غرف قديمة، إنتبهنا لسيّارة رباعيّة الدفع، علمنا فيما بعد أنّ صاحبها فاعل خير من أهل الجهة أراد مساعدة سكّان المنطقة ببعض المؤونة فجلب لهم من ضمن ما جلب مشروبات غازيّة، تركوها للأطفال يلهون بها وقدّموا بعضها لرجال الأمن كأنّهم يرونها عديمة الأهمية. وغير بعيد عن منزل الفقيد، لاحظنا منزل شقيقه من الأب. قالت زوجته إن ابنها قد ترك الدراسة بسبب سوء الأحوال الاجتماعيّة والجوية معًا.

أما كلاب الراعي الشهيد فقد كانت على مقربة منّا وقد أخذت لنفسها مكانًا بين الواقفين دون أن تصدر صوتًا أو تسبب إزعاجًا لأحد، كأنّها في أيّام العدّة حدادًا على صاحبها، الذي حرست جثّته ليلة كاملة حتّى قدوم أهله لانتشالها، أمّا نسيم السلطاني الذي تحدّث في التلفاز فكان يخفي وجهه لا تظهر منه غير عيناه ولا شيء يميّزه عن غيره من الشباب المتواجدين سوى أنه كان بين الفينة والأخرى يدخن بعض السجائر، لم يكن يهتمّ لتقسيم الإعانات مثل غيره مكتفيًا بالنظر إليهم من فوق درّاجته الناريّة.

عدنا أدراجنا والبحث عن نقل الحقيقة كان مؤرّقًا فالدولة تغيب تمامًا هناك والتهميش ظاهرة ملامحه والأمن لم يكن بالأعداد الكافية لحماية السكان من خطر محدق ولكن كلّ البيوت على هشاشتها تحتوي تلفازًا وثلاجة ولأصحابها العشرات من قطعان الغنم والمفارقة أن ليس لهم ما يقيهم بردًا قارصًا أو سيلًا جارفًا ولا ما به يرتبطون بباقي الأرض والأرياف من طرقات ووسائل نقل.

لم تكن سياحة ثوريّة ولا استثمارًا في آلام الناس بقدر ما كانت الصورة كاشفة فاضحة مفادها أنّ إرهابًا من فوق الجبل يهدّد هؤلاء وإرهابًا من نوع آخر تحت سفح الجبل يتهدّدهم بسبب انقطاع علاقتهم  بالدولة التي تركتهم بين خيارين فإمّا أن يعيشوا معلّقين هناك أو أن يغادروا المكان لينخرطوا في مجتمع لا تزال ميكانيزمات فيروس الجهويّة المقيتة والمظاهر تحكم أغلب سلوكياته وفي ردّة الفعل على ذلك قد يلتجئون إلى ما لا يحمد عقباه.

اقرأ/ي أيضًا:

تونس.. العدالة بوصفها سؤال الثورة

تونس.. من الترهيب إلى الإرهاب