17-يونيو-2016

(Getty) لا يناقش المشاهد منطقية أحداث تلك المسلسلات ولا مدى ترابطها ولا مغزى سلوك أبطالها

لم يتضح بعد ونحن في الأسبوع الثاني من رمضان كيفية تعامل المشاهدين مع هذا الكم الهائل من الأعمال الدرامية التي تحاصرهم في مختلف القنوات التلفزيونية. يُعرض الآن أكثر من 50 مسلسلًا عربيًا، أغلبها ينطلق من الواقع ومشكلاته المتراكمة وأزماته المتفاقمة، بخلاف مسلسل أو اثنين استوعبا درس المسلسلات التركية المخملية التي أقبل عليها عدد كبير من المشاهدين العرب، فصرنا نرى مسلسلات عربية تلبس رداء المسلسلات التركية التي نالت جماهيرية كبيرة في العالم العربي.

المسلسلات التركية التي تختار التلفزيونات العربية عرضها تنتمي إلى لون رومانسي مفارق لواقع المسلسلات الرمضانية

المسلسلات التركية التي تختار التلفزيونات العربية عرضها تنتمي إلى لون رومانسي مفارق لواقع المسلسلات الرمضانية وليس فقط متجاوزًا له، ولذا تبدو المسافة بعيدة للغاية بين العالم الافتراضي المخملي الذي تحيا فيه شخصيات تلك المسلسلات، وعالم الواقع العربي المأزوم البائس حتى النخاع الذي تنهل منه الدراما الرمضانية في مجملها.

مأخوذًا بالحياة الرغدة التي تصدّرها مرئياتها، يجد المشاهد ما يمكن أن نعتبره تعويضًا عن الواقع المرّ من خلال عالم جميل يهرب إليه وكأنه يفرّ لدقائق كل يوم من مشكلات هذا اليوم وهمومه. تقدم تلك المسلسلات عالمًا سحريًا وكأنه حلم مكتمل، فلا يسأل المشاهد عما إذا كان ممكنًا أن يعثر على مثله في الواقع حتى إذا كان ما يراه مختلطًا مع أماكن حقيقية سمع عنها أو قرأ من قبل. ولذلك فهذا المشاهد لا يناقش منطقية أحداث تلك المسلسلات ولا مدى ترابطها ولا مغزى سلوك أبطالها.

اقرأ/ي أيضًا: يوسف الإمام.. جمهور المراهقين المصريين هم هدفي

أما شبيهات تلك المسلسلات التركية، ممن يظهر فيها ممثلين عرب ويتم تصويرها في أماكن عربية أو حتى أجنبية، فتفرض سؤالاً مختلفًا على نفس المشاهد، إنه سؤال الكذب والاحتماليات الغائبة. فبقدر ما تكون عوالم تلك المسلسلات ساحرة وحلمية، إلا أن أسئلة لا تنتهي تطفو على عقل المشاهد حول حقيقة وجود هؤلاء الأشخاص في الواقع، وهل هم يعيشون معه في نفس البلد، يتنفسون الهواء ذاته الذي يتنفسه؟

تبدأ المقارنات في التتالي، وينمو الإدراك بالهوة الشاسعة التي تفصل ناس عن ناس، ويتحوّل التأثير الأول بالانبهار والتماهي مع "الواقع المسلسلاتي" إلى إحساس متنامي بالضآلة وقلة القيمة واستحالة تحقق شروط التماهي مع هذا الواقع الذي يراه على شاشة التلفزيون. النتيجة غالبًا ما تكون شعور ضاغط بالكآبة يترسّب تحت طبقات سائلة من الصور الجميلة وأحلام اليقظة المعيشة.

تزدحم المسلسلات "الواقعية" بالصور السلبية والشائعة في مجتمعاتنا وبلداننا الآن، من التطرف الديني والفقر والبطالة

اقرأ/ي أيضًا: "ونوس".. جنة شياطين عبد الرحيم كمال

وبمنأى عن هذه الفانتازيا الرومانسية -المربكة في أحسن الأحوال- تأخذ الدراما الرمضانية التي تملأ قنوات التلفزيون الآن مَشاهدها من الواقع، ولا يكتفي بعضها بما فيه من بؤس وإنما يبالغ في سواده ويفرط في "واقعيته"، أو يسعى جزء منها لإضحاك المُشاهد والضحك منه في نفس الوقت.

وتزدحم المسلسلات "الواقعية" بالصور السلبية والشائعة في مجتمعاتنا وبلداننا الآن، بدءًا من التطرف الديني والفقر والبطالة والمعاناة الاقتصادية والمناطق العشوائية وأطفال الشوارع، وصولاً إلى الفساد واستغلال النفوذ وإعلاء المصالح الخاصة على المصلحة العامة وضعف الانتماء وغسيل الأموال وغياب المعايير الموضوعية والزواج العرفي والتفكك الأسري والانحراف الأخلاقي وازدياد محاولات الهجرة بحثًا عن الرزق أو الهروب من الموت المقيم، ومرورًا بالطائفية والخلافات المذهبية وداعش، إلى آخر تلك الآفات القاتلة التي توطّنت في الأرض العربية. 

تشكيلة متنوعة وفاخرة من المشاكل قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد قادرة على "سَدّ نِفْس" أكثر المشاهدين تفاؤلًا، وإذ تبدو الصورة غير واقعية في دراما يُفترض أنها "واقعية" جدًا، يضعف إقبال المشاهدين عليها ويفتر التفاعل معها، وتتحول أغلب المسلسلات الدرامية التي يفترض أن لها "رسالة" تتجاوز تسلية الصائمين خلال النهار وإمتاعهم بعد الإفطار، إلى "سوب أوبرا" بامتياز، مجرد طقس رمضاني آخر إلى جانب المكسرات والقطائف والكنافة. إلى أن ينتهي رمضان، وتعاود الشاشات بث المسلسلات التركية لتعلن عن فوز الفانتازيا الرومانسية القادمة من بلد هو على غير حقيقة ما تظهره تلك المسلسلات، ولكن "الجمهور عايز كده" وكل رمضان وأنتم بخير.

اقرأ/ي أيضًا:

النظام السوريّ يحوّل "أبو عصام" إلى فيمينيست

"القنّاص الأمريكي".. قنّاص الخدع