01-مايو-2016

الولادة من الخاصرة

تجيء أهمية مسلسل "الولادة من الخاصرة"، بأجزائه الثلاثة المتتالية (2011، 2012، 2013)، إضافة إلى موقعه ضمن أوائل أعمال الدراما السورية عن الثورة، كونه مادة مباشرة لرصد استجابة الدراما السورية لأحداث الثورة، إذ تطور المسلسل الذي كتبه سامر رضوان، وأخرجت الجزأين الأولين منه رشا شربتجي، والجزء الثالث سيف الدين السبيعي؛ تطورًا يتلاءم مع التغيرات الجديدة في المجتمع السوري التي أحدثها الحراك الاجتماعي، خاصة أن موضوعاته التي لم تكن منفصلة عن واقع السجال الاجتماعي المرتبط بالثورة قبل بدئها، ساعدت القائمين على العمل في عرض هذا التطور بتواصل، وإن لم يبد تواصلًا كاملًا. كما إنه مثال واضح على ادعائنا في هذه السلسلة بأن الحديث عن فساد السلطة والتهميش أخذ منحى آخر بعد الثورة، صار فيه أقل حدة وأكثر حذرًا. وهو واحد من المسلسلات القليلة التي بدأت قبل الثورة واستمرت معها. وسنعرض في السلسلة حالة أخرى مشابهة في الجزأين الأخيرين من مسلسل "بقعة ضوء".  

قدم مسلسل "الولادة من الخاصرة" صورة عامة عن علاقة الأجزاء الاجتماعية المتناقضة داخل المجتمع السوري

يعرض المسلسل (الذي مثل الأدوار الأساسية فيه قصي خولي، سلاف فواخرجي، عابد فهد، باسم ياخور، محمد حداقي، ديما قندلفت، عبد الحكيم قطيفان...) صورة عامة عن علاقة الأجزاء الاجتماعية المتناقضة داخل المجتمع السوري، متعرضًا في هذه الصورة لفساد السلطة ورأس المال الذي يتحكم بمسار هذه العلاقة، ومقدمًا محاولة جدية لفهم الواقع الاجتماعي من خلال هذه التناقضات على حد وصف الكاتب، فيعرض بمرونة عالية مقولات طبقية واجتماعية ونفسية من خلال يوميات سكان عشوائيات المدينة، وعلاقتها المباشرة بالمؤسسة الأمنية وتقاطع أشكال مختلفة من السلطة، سواء سلطة الأمن أو سلطة الأب أو سلطة العادة الاجتماعية. 

استمرت قصة الجزء الأول –الذي يخمن أن إعداده سبق ما حدث في سوريا- في الجزء الثاني، من خلال مقاربة نفسية أيضًا للاستبداد والعنف، سواء كان استبداد رجالات السلطة، أو عنف المهمشين، مع تمهيد يبدو واضحًا للحديث عن الثورة في الجزء الثالث، الذي نخصص تركيز هذه المداخلة له. إذ لبى سامر رضوان ضرورة التوثيق الملحة بعد الهبة الاجتماعية، أو محاكاة الواقع السوري الجديد كما يظهر في بداية شارة المسلسل. وكان التمهيد لجزء ثالث يتطرق للثورة بوضوح، في الحلقات الأخيرة عندما يثور أهل الحارة على الأجهزة الأمنية، قبل أن تقوم مظاهرة كبيرة ينهيها تدخل الوزير ووعوده.

بعد بداية هذا المسار الجديد للمسلسل، واجه القائمون عليه مشكلة الانقطاع بين أجزاء العمل، إذ لم يكن التواصل في قصة أجزاء المسلسل كافيًا حتى بدا في كثير من الأحيان مجموعة من "الإسكتشات" الطويلة المنفصلة، خاصة أن تطورًا ملاحظًا في مسار الشخصيات بدا فقط من أجل تصميميها على قياس قصة الجزء الجديد، الذي كانت الثورة موضوعًا مباشرًا له. 

غير إن هذا الانقطاع لم يكن انقطاعًا في القصة فقط، حيث أثار دخول الثورة في الجزء الأخير مشاكل طويلة، من بينها انتقال مكان التصوير إلى بيروت بعد رفض الرقابة العمل، إضافة إلى مشاكل بين شركة الإنتاج والمخرجة، أدت إلى انسحابها وتعيين سيف الدين السبيعي مخرجًا جديدًا. تغيرٌ أدى بدوره إلى مشاكل بين الكاتب والمخرج الجديد كانت جزءًا من الضجة الإعلامية التي أثارها المسلسل. خاصة مع إضافة المخرج لمجموعة من المشاهد التي تروج لمقولة النظام السوري لم تكن موجودة في السيناريو أصلًا، مقابل حذف مشاهد أخرى مؤيدة للحراك الثوري، الذي رصد المسلسل بداياته الأولى.

في "الولادة من الخاصرة" ، قام المخرج بإضافة مشاهد موالية للنظام لم تكن موجودة في السيناريو، وحذف مشاهد مؤيدة للثورة

انتقل تركيز المسلسل في جزئه الأخير من الاقتصار على عرض فساد السلطة إلى عنف واستبداد "عصابات" الثورة والجيش الحر، مضافًا إلى عنف النظام. واللافت أن الجزء الأخير كان واحدًا من الأعمال القليلة التي أخذت موقفًا من الحدث، كان أقرب إلى تحميل النظام مسؤولية ما يحدث، حتى لو كان موقفًا ناقصًا.

ومع أن مواقف معظم الفنانين والكتاب السوريين كانت واضحة، فقد وقف جزء منهم منذ البدء مع الثورة، ووقف آخرون مع النظام، إلا أن معظم الأعمال على غرار "الولادة من الخاصرة"، لم تستطع أخذ الموقف نفسه الذي أخذه فنانوها، ويبدو المسلسل هنا فرصة لفهم هذا التردد، وتحميله لحرص مؤسسات الإنتاج على جمهور كامل. 

يستمر المسلسل الذي أثار نقاشًا طويلًا بين مؤيدي النظام ومعارضيه، في تصوير عنف النظام من خلال شخصيات في الأجهزة الأمنية، وعنف الثورة من خلال عصابات مختلفة مع الجيش الحر، مع التأكيد المستمر طوال المسلسل على وجود فاعلين كبار يتحكمون بمصائر الجنود والثوار، فينزع من الثوار فاعليتهم، ويخلص بعض جنود الأمن من ذنوبهم. إذ يظهر هذا المشهد باستمرار سواء في التأكيد على جهلهم بما يحدث، بطريقة لا تبدو مقنعة، وفي تصويرهم جميعًا كمجموعات من الرجال الطيبين المتقاتلين، من دون أن يعرفوا سبب القتال أصلًا، وفي أحيان كثيرة كضحايا دائمًا.

ولعل المشهد الذي انتهى عنده المسلسل، كان مثالًا مباشرًا على هذا الادعاء، فقد انتهى المسلسل مع نهاية إحدى قصصه التي كانت عن أمّيْن، واحدة أم لجندي في الجيش الحر، وأخرى أم لجندي في جيش النظام، تنقذ واحدة منهن ابن الأخرى، وتسكنه في بيتها مطببة جراحه، قبل أن تكتشف أنه هو نفسه قاتل ابنها. تجيء الصورة في الدقائق الأخيرة من المسلسل على أم القاتل تطلب من أم المقتول أن تسامح ابنها، لينتهي المسلسل بشاشة مقسومة على قسمين، وصورتين في كل واحدة أم.

فسر "الولادة من الخاصرة" العنف من خلال عوامل مرتبطة بالبيئات النفسية والاجتماعية

وإذ يحسب للعمل أنه قدم نموذجًا مهمًا وجديدًا نسبيًا، قد لا نجده في أعمال كثيرة عالجت الثورة، فسر به العنف من خلال عوامل مرتبطة بالبيئات النفسية والاجتماعية، إذ تربى الضابط في ميتم، وخاض مجموعة من الزواجات الفاشلة، كانت كلها ظروفًا مؤسسة للقمع الذي يمارسه مع دخوله في جهاز المخابرات. 

بينما تكون ظروف الفقر والمشاكل العائلية والصراع مع الأب ظروفًا تحول الإنسان العاديّ البسيط إلى رجل عصابات وغسيل أموال، من خلال تحول مفاجئ في شخصيته. لكن مع هذا، لم نجد إشارة مباشرة إلى دور التهميش والقمع الذي تمارسه السلطة في نشوء العنف المضاد الذي يعرضه المسلسل، كما وجدنا ذلك في نهاية الجزء الثاني عندما ثار أهل الحي على رجالات الأمن، ولكن كانت مجموعة من الإشارات المتقطعة فقط. 

على أية حال نجد أن هناك استغراقًا في التحليل النفسي الذي يتكئ عليه العمل، مقابل تجاهل جزئي لعوامل بنيوية مثل التهميش والقمع التي عرف الثوار ثورتهم ضدها. إضافة إلى أن هناك إشارة قد تفهم كأنها افتراض، أن دخول شخصيات المسلسل للاحتجاج لم يكن بإرادتها، ولكن نتيجة ظروف معينة عاشتها، ونصطدم هنا مع إنكار أيضًا للفاعلية السياسية للشخصيات. 

يحسب للعمل أنه قدّم بجرأة موقفًا يحمّل فيه النظام مسؤولية ما جرى، لكنه لم يستمر على الموقف نفسه في اقتراح حل "للأزمة"، عمومًا ذلك ليس دور الفن، كما أن الفترة التي أنتج فيها العمل، وكذلك الفترة التي تدور فيها أحداثه، كانت مختلفة عما وصل إليه الواقع السوري من تدمير وتفتيت.