24-نوفمبر-2015

امرأة مصرية ترفع إصبعها الملطخ بالحبر، بعد الإدلاء بصوتها في القاهرة (Getty)

حكت لي صديقة حكم عليها الزمان أن تجوب العالم، كل يوم بحقيبة وحلم، أن الشفافين من خلق الله لا يجب أن يعبدوا الله مثلما نعبده. وأن نظام الصوت والصدى "ما تفعله يعود لك" هو نظام عالمي يعرفه من خلق الله من يعبدونه ومن لا يفعلون. وأن الشياطين نفسها تعرف ذلك.

علمتني دراسة الأدب أن الربط بين عناصر الحياة هو أصل فعل الكتابة

اسطاسية هو اسم السيدة التي قُتل ابنها ذات مساء، وأُرسل ودمه على حماره دون أن يتوصل أحد إلى قاتل ابنها الحقيقي. وبينما كان الرجال يخلدون إلى النوم في وسط أولادهم وزوجاتهم، كانت تخرج كل ليلة تصيح وتنوح على ابنها. كان ذلك يجعل النوم يطير من عيونهم، منهم المتعاطف معها ومنهم المشمئز المتطير بصوتها ونواحها. حتى اعترض أحدهم على النواح واقترح عليها أن تصمت!

كنت جالسة أتابع سير العملية الانتخابية "البرلمانية" في مصر، حين أخرجت ابنتي هذه الرواية التي كتبها خيري شلبي، بكل ما فيها من إسقاطات سياسية هو أبرع من يرسمها في أدبه الشعبي المتعلق بالتراث المصري والريف كمكان دومًا يرمح فيه الخيال دونما حدود. علمتني دراسة الأدب أن الربط بين عناصر الحياة هو أصل فعل الكتابة، هو خلاصتها وجل أصالتها.

أسير في شوارع القاهرة المدينة التي لا موضع لها في قلبي، وأتطلع إلى لافتات الناخبين، صورهم، وسيارات الدعاية البائسة التي لا تبرز برنامج المرشح قدر ما يعنيها أن توصل "نسبه" وصلته، محملة بسماعاتها الضخمة وأغانٍ وطنية فقدت وطنيتها، وأصبحت تلتصق في جدار الذاكرة بكل معاني الفاشية والرطانة والقبح.

سؤال واحد يدور في رأسي، سؤال أراه وجيهًا جدًا: هل حقًا يصدق أولئك الناس أن ولاءهم للسلطة وحده كاف ليحميهم من غدر كل تغيير قادم؟ هل حقًا يصدق المصلحون منهم أنه يمكن لأي إصلاح أن يشق طريقة سلسًا وسط كل هذا الفساد العريق المؤسس منذ بدأ عصر المماليك الثاني الذي نعيش فيه؟

ونحن نسير في الطريق وجدت سائق التاكسي، هو رجل ستيني ظل طوال الطريق الطويل نسبيًا صامتًا متجهمًا، ينفجر ضاحكًا حين سقطت إحدى أوراق دعاية حزب النور السلفي في السيارة، ثم وجدتني أسأله وقد فهمت معنى ضحكاته: أرأيت المهزلة؟ قال وهو يحاول ألا يفقده الضحك تركيزه: هذه جيدة لمسح المرايات ولقلي البطاطس. 

الحصانة فقط هي الهدف الأسمى لكل مرشحي هذه المرحلة البرلمانية العصيبة التي نعيشها

ضحكنا سويًا، حتى فاجأنا شاب سلفي كان يوزع ورقًا دعائيًا آخر عند إحدى إشارات المرور وهو يقول: الله يكرمك، خد ورقة لتعرف من تنتخب! أخذها السائق وهو يضحك. لكن حين انتصف الطريق عاد لوجومه. لاحظت أننا عند إشارة مرور مسجد رابعة. قال الرجل دونما تحفظ، ودون مبالاة برد فعلي على الموضوع الأكثر حساسية في مصر الآن، موضوع "فض رابعة "، لم أعمل في حياتي كما عملت في أثناء اعتصام رابعة، والله كان من الممكن فضها بأقل الخسائر لو أنهم فكروا قليلًا. قلت له: فعلوا ما يجيدون فعله يا أسطى. ماذا يضيرهم لو قتلوا بضع آلاف هنا أو هناك؟ هز رأسه وشرد.

في محاضرة عن تاريخ الأمريكتين قالت لنا المحاضرة، وكانت أمريكية من أصل هندي أحمر أمريكي: الدول الباطشة تخشى جرائمها، وأمريكا تخجل من تاريخها طالما أن أحدًا لن يُحاسب على مجازره. بعد المحاضرة استأذنتها لأحدثها عن كل التاريخ الذي أعرف في قرارة نفسي أنها درست منه الجزء اليسير فقط، لكنها كانت سيدة ثمانينية لا طاقة لها بما سأحكيه من فظائع.

الحصانة فقط هي الهدف الأسمى لكل مرشحي هذه المرحلة البرلمانية العصيبة التي نعيشها. معركتهم تخصهم وحدهم، معركتهم هي ذات معركة كبيرهم، نحن لا شأن لنا بها. همومنا ومعاركنا مختلفة تمامًا، أصبح جُلها أن نجعل سجينًا يلقي على والده نظرة الوداع الأخيرة، أو نجعلهم بعد ضغط يسمحون أن يمضي عريس ليلته الأولى مع عروسه، قبل أن يدخلوا عليه ويأخذوه من عرسه كما حدث بالفعل. أو أن نجعلهم يسمحوا لنا بمعرفة أين المعتقل المختفي قسريًا منذ شهور. أو يُسمح بكتابة سبب الموت الحقيقي في شهادات الوفاة للذين ماتوا من التعذيب في أقسام الشرطة.

اللعنة على الحفلة المقدسة المقامة على جثثنا.. فقط نريدهم أن يخفضوا صوت موسيقى الدم حتى يرتاح الميتون في ميتتهم! 

 
اقرأ/ي أيضًا:

لماذا لا يحب "الإخوان" عبد الله بن مسعود

قال العجوز.. اقتلوه!