01-يوليو-2016

(اندرنال مخرجي/أ.ف.ب/Getty) متجر كتب في الخرطوم

أذكر في مطلع التسعينيات، انتشر نوع من الكتب التي سُميت "ساخرة"، في طبعات شعبية على ورق الجورنال بأغلفة أحادية أو ثنائية اللون. وجدت تلك الكتب جمهورًا، بسبب من الاختناق الثقافي الذي وسم تلك الفترة، ثم بسبب الكآبة التي نشرت جناحيها على السودان. ففي تلك الأيام، مع الرقابة على المكتبات؛ كانت مصادرة المكتبات الخاصة بالمعارضين والكُتَّاب، تكاد تكون فعلًا يوميًا، حتى إن كثيرين عمدوا إلى إخفاء كتبهم بعيدًا عن منازلهم، تحسبًا للمداهمات المتوقعة. يضاف إلى هذا تصاعد وتيرة الحرب وأخبار الموت اليومي، التي تفجع الأسر في أبناء سيقوا قسرًا إلى حتفهم، فأيامها كانت حملات التجنيد الإجباري تُحكم خناقها على الشوارع، ويرسَل المجندون المقبوض عليهم من الأزقة والساحات، إلى الحرب سريعًا، وكثيرون منهم لا يعودون.

ارتفع منسوب السخرية والفكاهة في مواجهة من لا يتحدثون العربية بطلاقة من شعوب السودان، وانتشر التناول السطحي المرح لقضايا عميقة ومعقدة

أثناء الانشغال بمقاومة أسلمة الثقافة؛ تسللت ثقافة بديلة مدعومة من الدولة، لتحتل الفراغات التي خلّفتها زلازل التغيرات. فنبتت، بالإضافة إلى تلك الكتب؛ فرق الكوميديا والمونولوجات، وصحف الكاريكاتير والكلمات المتقاطعة، وفرق الغناء الإسلامي والإنشاد. ارتفع منسوب السخرية والفكاهة في مواجهة من لا يتحدثون العربية بطلاقة من شعوب السودان، وانتشر التناول السطحي المرح لقضايا عميقة ومعقدة، وانتهى صقل الصور النمطية عن الآخرين إلى تربية جيل صار في ما بعد هيكل المجتمع؛ على الاستخفاف والتعالي والهرب من إعمال التفكير إلى الجاهز من الأفكار السريعة.

اقرأ/ي أيضًا: في صالون العقاد

في تلك الأيام، أصبح من لم تجرفهم ثقافة الخفة والتسطيح، قلّة منغلقين، يتداولون ترياقهم من الكتب الممنوعة، والقصائد والأغاني المحاصرة في أشرطة الكاسيت والدفاتر. انعزلوا حتى إنهم لم يطيقوا الانفتاح النسبي الذي حدث بعد سنوات، وتحولوا إلى الكهول الناقمين ذوي النظرة الأحادية للصواب والخطأ والحرية، الذين نراهم اليوم بعيدين عن نهر الحياة، كلما أبدوا آراءهم في قضية حديثة، وكأنهم لا يزالون في معازلهم القديمة.

صارت الصحف التي توصف بالرصانة منابر للعنصرية والتسطيح وإشعال النزعات الإقصائية

اليوم، لا تزال الخفة التي زُرعت في تلك الأيام الباكرة، تثمر، بعد أن سقتها تحولات العالم. غلظ عودها، وصارت تتخفى في ثياب الجدية، فأصبحت هناك كتب لم يُكتب عليها أنها "ساخرة" لكنها تقول ما قالته قديمًا. لم تعد صحف الكاريكاتير والتسلية تسيطر على السوق، لكن بدلًا منها صارت الصحف التي توصف بالرصانة منابر للعنصرية والتسطيح وإشعال النزعات الإقصائية. اختفت – تقريبًا – فرق الغناء الإسلامي والإنشاد، وحل مكانها مغنون نجوم يعملون في أجهزة أمن الدولة أو يتعاونون معها، لكنهم لا يغنون للروابط الإسلامية ولا يدعون إلى إعادة أمجاد غابرة.

أنجبت ثقافة الخفة الآن، عقولًا وقودها ملخصات جاهزة وآراء محصنة من الاختبارات، تروغ من الإمعان، إلى نشاطات سطحية لا تقترب من جذر المشكلة، بل تحاول وضع مكياج مؤقت لآثارها يبقى فقط لوقت يكفي لالتقاط الصور ورفعها إلى صفحة في موقع ما. لا أفق للمقاومة، ولا صبر على معالجة تعقيدات الحياة.

في التسعينيات، قال الحكام الجدد للسودان إنهم سيعيدون صياغة الإنسان السوداني. حسنًا، لقد نجحوا في ذلك. على الأقل لم ينجُ أحد من الخفة، حتى من يعتنقون – نظريًا – نظامًا للقيم والحقوق منفتحًا على الإنسان، تجدهم عند المحكات أول من ينقلب إلى النظام الأسهل: التسطيح والهرب من جذور المسألة إلى فروعها.

اقرأ/ي أيضًا:

الكتاب للجميع.. "أبابيل" تطلق مشروع الكتب الرقمي

احذر اللقاء بكتابك المفضلين