08-فبراير-2016

طين وسكين عمل نحتي لـ خالد ضوا/ سوريا

لطالما ذهبت المقارنات إلى تشبيه النكبة الفلسطينية بالنكبة السورية، من حيث التهجير والتشرّد، والإقامة في خيم مرتجلة، والتعامل مع الضحايا بمنطقين لا ثالث لهما: المتاجرة أو الإهمال. وهناك من تذهب جرأته إلى القول بتفوّق المأساة السورية على أختها الفلسطينية، بل وعلى كل مآسي الأرض.

الألم هو الألم، كلُّ ضحيةٍ في هذا العالم هي ضحيةٌ مُنتهكة تساوي أختها

لا شكّ في أنّ هناك تشابهًا كبيرًا، قويًا وأكيدًا، بل إنه متطابق في كثير من النواحي، لكنّ منطق القائلين بتفوّق الضحية السورية ألمًا ونكبةً هو إمعانٌ في إيلامها، وجهلٌ أحمق بآلام الآخرين أو نكرانٌ لها، ومن يجهل ألم سواه حريٌ بذلك "السوى" أن يجهلوا آلامه أيضًا. الأسوأ على الإطلاق بين مساوئ هذا المنطق الكثيرة هو وضع الضحايا في حلبة تنافس، لا يجب النظر إلى واحدةٍ دون الأخريات بسبب تفوّق ألمها. من قال إن الألم يتفوّق يا ناس؟ ما الفارق، من حيث شدة الإحساس بالوجع والانمحاء لا من حيث الأسباب، بين من يئنّ بجراحه في البريّة نتيجة عيار ناريّ، وآخر يتلوّى على سرير وثيرٍ في مستشفى جراء نوبة ألميّة للسرطان؟

الألم هو الألم، كلُّ ضحيةٍ في هذا العالم هي ضحيةٌ مُنتهكة تساوي أختها. التفوّق للجلادين فقط، هؤلاء هم من يتفنون بصناعة الموت والآلام، وهم من يعملون على تطوير وسائل التعذيب لرفع مستويات المتعة السادية. موت الفلسطيني في مختلف مراحل نكبته الممتدة من 1948، أو موت العراقي في فصول كربلائه المعاصرة.. إلخ، هو ذاته موت السوري الآن. ألم كل الضحايا والمشردين ينحو إلى التطابق في جدارية عملاقة تروي تاريخ العالم، بينما يذهب الطغاة والقتلة إلى الاختلاف في صورة صغيرة، متنافرة ومتناثرة.

لنسأل أنفسنا: ما الذي تغيّر منذ تاريخ النكبة (وهو تاريخ يصلح لقراءة انهيار العرب المستمر في العصر الحديث)؟ تغيّرت البنادق، صارت آلية ورشّاشةً. تغيّرت القنابل، صارت دائرة الموت التي تسببها أكبر، بالإضافة إلى دائرة أخرى لنثر شظايا تتسبب بعاهات لمن ينجو من دائرتها الأولى. الصواريخ صارت مفخرة الحداثة، بإمكان معتوه وراء البحار أن يمحو قريةً آمنة في ريف العالم الثالث. أصبحت هناك رصاصات تواصل انفجارها داخل الجسد الآدميّ، وجاءتنا قنابل تسمّى ذكية تقتل بغباء منقطع النظير.

فلسطينيًا، تم إسكات الضحية ومحو صورتها بحيث تصبح شبحًا، لا نحن نراه ولا هو قادر على إقناع الآخرين بوجوده

الأهم في مجرى تطور صناعة السلاح أنها رغم قذارتها كانت تسعى إلى سلاح دقيق يصيب هدفًا معينًا، ولهذا كانت تكاليفها باهظة على الدوام، بحيث إن الصاروخ قد يتجاوز سعر المبنى الذي يهدمه! الأسد وعصابته وداعموه حلّوا هذا اللغز، صنعوا سلاحًا رخيصًا لإنجاز إبادة سهلة.

ما أريد قوله هنا أن الأسلحة تطورت كثيرًا، لكن الدم ظلّ دمًا، والجرح ظلّ جرحًا، والدمع ظلّ دمعًا. كذلك الصراخ والجوع والجنون والتيه. ولعلي هنا أتذكّر أنّ ميلان كونديرا ذهب في إحدى رواياته إلى القول إن الألم يوحّد الكائنات الحيّة كلها، فهو اللّغة السرية للوجود، ذلك أن ألم الإنسان هو ذاته ألم القطة.

في العودة إلى النكبة، نجد أن إنسان تلك المأساة صمت طويلًا، تحمّل مذلّة التهجير والهزيمة صامتًا، وظل راضيًا باندحاره سنواتٍ طويلة إلى أن جاءت الثورة والفدائيون وأعادوا له صوته الغائب، وتم إنقاذ صورته من الضياع. غموض مخيف يعتري فترة النكبة، فمن يقرأ تاريخ القضية الفلسطينية يجد أن هذه الفترة هي الأكثر إشكاليةً لأنها لم تكتب كما ينبغي. ثمة روايات شفهية أكثر مما هنالك من تاريخ (رغم جهود رائدة لمؤرخين مهمين). ربما لأنه تم إسكات الضحية وإخراس جراحها، ومحو صورتها بحيث تصبح شبحًا، لا نحن نراه ولا هو قادر على إقناع الآخرين بوجوده.

في مقابل ذلك، كان حظ الضحية السورية أن تجد نفسها في زمن الصورة والهواتف الذكية والواي فاي. وصل صوت الضحية، وصلت صورتها. رأيناها تحكي حكايتها، وسمعنا صوتها يشير إلى القتلة بالأسماء والصفات. الميديا جعلت الضحية السورية تروي تيهها في الأرض، وكان للصورة أن تهزّ العالم بغرق الأطفال وتحوّل الطبيعة إلى نوع آخر من الطغاة.

وصل الصوت، أوصلته الحداثة، لكنّ الغريب أن الضحية السورية عادت إلى الغياب، على العكس من الضحية الفلسطينية التي بدأت من الغياب، ثم صنعت حضورها.

حدث ذلك لأنّ الصراع لم يعد على صوت الضحية، فلتروِ حكايتها كما تشاء، فلتقلْ ما يحلو لها، الضربة الآن موجهةٌ للصورة (الصورة بالمعنى المباشر لا المجازي). حمّل صورة الضحية مسحةً ما من أيديولوجيا الجهاديين، أو أَشار بخبثٍ إلى أنّ الضحية من فئة الموالين للنظام (والضحية ضحية سواء كانت مع أو ضد)، أو ذكّر بأن الضحايا متحرشون في حفلات رأس السنة..

 الضحية السورية عادت إلى الغياب، على العكس من الضحية الفلسطينية التي بدأت من الغياب

افعل أي شيء مما سبق، وسوف تكسر الصورة فورًا. هناك أيضًا طريقة أخرى لتغييب الضحية عبر إظهارها في شكل تجاري دعائي لإنسانية غير فاعلة، كما حدث في حفل استقبال اللاجئين السوريين في كندا.

تعرّضت صورة الضحية السورية للاغتصاب كما الضحية نفسها. في سوريا دمّروا الإنسان وصورته، فعلوا ذلك لأن هذا الإنسان جعل من تحديه مضاعفًا مرتين، الأولى في مواجهة نظام الدكتاتور وضمنه النظام العالمي، والثانية في صعود السوري إلى تمثيل ضحايا الأرض. وهذا بالذات ما لا يسمح الاقتراب منه. ليس للضحايا إلا أن يغلقوا أفواههم! ليس عليهم إلا أن يكونوا ضحايا وحسب!

بين كل ما يجري، يجب على الضحية، سورية كانت أم فلسطينية أم عراقية أم أفريقية... إلخ، أن لا تسعى إحداها إلى طمس الأخريات بدواعي التفوق واحتكار الألم. يكفي أن تكون على حقيقتها لتصبح مرآة لكل معذبي الأرض والتاريخ.

اقرأ/ي أيضًا:

"أولاد الغيتو- اسمي آدم".. سردٌ بلغة النّار

رثاء الأشياء الصغيرة