05-مايو-2016

خالد أبو النجا (Getty)

في أقل من دقيقة حذف الفنان السوري باسم ياخور التعزية التي شاركها على حسابه على الإنستغرام للرئيس السوري بشار الأسد بوفاة والدته أنيسة مخلوف. التعزية -والتي كانت عبارة عن صورة للسيدة المتوفاة- امتلأت وخلال أقل من دقيقة بالكثير من التعليقات الخائبة الأمل بموقف باسم ياخور من نظام الأسد. 

نشر باسم ياخور على إنستغرام تعزية لبشار الأسد بوفاة والدته، ثم حذفها في أقل من دقيقة بسبب التعليقات

بعض التعليقات كانت عبارة عن وجوه مصدومة وكلمات حزينة لا تريد أن تصدق أن فنانها الوسيم خفيف الظل يدعم النظام سيئ السمعة. البعض أيضًا لم يتردد في عمل "منشن" لياخور وسؤاله بحزن وإلحاح: هل أنت مع النظام! أرجوك قل لا. التعليقات أيضًا لم تخلُ من الشتائم واللعنات للفنان وللأسد وللعالم كله الذي خذل السوريين. ومن ناحية أخرى حيّا البعض الفنان على وطنيته واعتبر أن دعم النظام هو دليل على كونه فنانًا سوريًا أصيلًا. كل هذا دفع ياخور للتراجع عن التعزية وحذفها في أقل من دقيقة.

اقرأ/ي أيضًا: أين مفتاح الشارع؟

وضعت الثورات العربية على أنظمة الحكم الفنانين في مأزق، دعونا نسميه "مأزق ضرورة اتخاذ موقف". وهنا الفنانون سيخسرون شيئًا ما مهما كان موقفهم السياسي، فإن هم دعموا النظام الحاكم سيخسرون جمهورهم من المعارضين له، وإن هم عارضوا النظام فسيخسرون المؤيدين له من جمهورهم. والصمت أيضًا ليس بخيار جيد فهو يعني تجاهل الدم وهذا بحد ذاته يعني الكثير. وهنا حاول الكثيرون إيجاد التوازن بين تجنب الصمت والتزام الحياد في ذات الوقت. فتحدثوا بصيغ عامة وجعلوا حساباتهم منابر لنشر القيم الإنسانية والدعاء الواسع بالرحمة الذي يشمل الجميع، ولا يحدد انتماءاتهم أو من هو الظالم الذي يدعون عليه ومن هو المظلوم الذين يدعون له. 

وسائل التواصل الاجتماعي صعبت المهمة على الفنانين. ففي الوقت الذي منحتهم المزيد من المساحة المجانية والواسعة للتواصل مع معجبيهم، إلا أنها جعلتهم مضطرين أيضًا للتعبير عن آرائهم السياسية. فالفنان الذي يشارك متابعيه صور طعامه وخزانة ملابسه وتفاصيل يومه وأسماء أطفاله وصورهم سيبدو صمته مخزيًا أمام مجازر ومآسي يتعرض لها أبناء شعبه. ولكن لماذا يتوجب على الفنان اتخاذ موقف سياسي علني وواضح؟ وهل من حق الجمهور محاسبته على هذا الموقف؟ وأمام كل هذه الأحداث المتسارعة والمخيفة في البلاد العربية هل الفنان مواطنُ فقط أم شخصية عامة ورأيها يجب أن يكون له ثقلُ في الشارع؟ الناس الذين أدخلوا الفنانين بيوتهم عبر شاشات التلفاز وسمحوا لهم ان يضحكوهم ويبكوهم ينتظرون من الفنان أكثر من الصمت. الصمت الذي لا يتناسب مع كونهم يمثلون رسالة الفن الإنسانية.

في آذار/مارس العام الماضي، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي صورة للفنان المصري محمد منير وهو يرمي ذراعه على كتف المذيع توفيق عكاشة، بينما يتمشيان ويتبادلان الحديث كصديقين مقربين. كانت الصورة بمثابة صدمة إضافية لعشاق منير الذين تجاهلوا بقصد أو بدون قصد الكثير من هفواته السابقة. فالفنان الذي طالما غنى للثورة والحرية والحب، توقفت حنجرته عن الغناء عندما احتاجها المصريون في ميدان التحرير في ثورة "25 يناير". كانت أغانيه موجودة ولكنه كان غائبًا. وحتى أغنيته "إزاي" والتي أصدرها بالتزامن مع أحداث الثورة كانت ضعيفة ومهزوزة تعاتب البلاد بوصفها معشوقة لا تبادل عاشقها الحب بشكل كاف. فهل كان هذا الكلام كافيًا أمام الدم الذي ملأ الشوارع المصرية؟ لا لم يكن. وما يُنقص من قيمة الاغنية أكثر أنها أغنية فنان طالما حرض في أغانيه السابقة على الثورة ضد الظلم. فأين هذا التحريض الجميل الآن! لقد كانت الأغنية بمثابة رفع عتب ولولا إرفاق الفيديو الخاص بها بمجموعة من صور الثورة لما حركت المشاعر في قلب المشاهد قيد أُنملة.

شكّلت صورة الفنان محمد منير وهو يرمي ذراعه على كتف المذيع توفيق عكاشة صدمة لمحبيه

في عام 1968، كتب الناقد الفرنسي رولان بارت مقالة بعنوان "موت الكاتب"، جاء فيها أن الكتابة هي نقض لكل صوت، دافعًا المؤلف إلى الموت، حين يقطع الصلة بينه وبين نصّه الإبداعي. ومن هنا تبدأ الكتابة التي يسميها بارت "النصوصية"، بناءً على أن اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف.‏ فكرة موت الكاتب عند بارت هي محاولة للتخفيف من سطوة الكاتب على النص ومنح اللغة المزيد من التركيز والأهمية بوصفها هي المحرك الأساسي للكتابة. 

اقرأ/ي أيضًا: حلب-القاهرة.. امتيازات القتل

ولكن وإن كان بالإمكان تطبيق ما يدعو له بارت هنا من أجل هدف آخر وهو القدرة على تصديق الفن والإيمان به بمعزل عن الفنان. بمعنى أن نفصل بين شخصية الفنان والفن الذي يقدمه. فهل نستطيع أن نحقق هذا الفصل؟

دعونا نحاول تطبيق هذا على الفنان السوري دريد لحام مثلًا، ففي شهر آب/أغسطس من العام الماضي زار لحام برفقة الفنانة سلاف فواخرجي مواقع تابعة لجيش النظام تعبيرًا عن تأييدهما للجيش والرئيس الأسد. وفي تسجيل مصور بتاريخ 27 كانون الثاني/يناير 2016 ظهر لحام وبصحبته بعض الفنانين السوريين، في مناسبة يبدو أنها كانت مخصصة لشكر مرشد الثورة الإيرانية. وصدم لحام جمهوره بمديحه لخامنئي قائلًا: "في روحك القداسة، وفي عينيك الأمل، وفي يديك العمل"، وحتى لو أردنا تجاهل الدور الذي تلعبه إيران في المنطقة، فإن التهليل الرخيص للشخصيات السياسية يبدو بعيدًا كل البعد عن مفاهيم الكرامة والوطنية التي صدح بها بطل مسرحية "كاسك يا وطن"!

الكثير من الفنانين اختاروا الوقوف بجانب الثورات في بلادهم حتى في أيامها الأولى عندما لم يكن من الواضح أين ستتجه الأمور وكان في ذلك مجازفة كبيرة جدًا. ففي سوريا، كما في مصر كما في الكثير من دول العالم، شركات الإنتاج الفنية مرتبطة برجال السياسية، والفنان الذي يثير غضب الدولة لن يرضى عنه رجال المال، وهذا يعني إقصاؤه من المجال الفني وتهميشه. هذا طبعًا إذا لم يتعرض للاعتقال كما حصل مع الفنانة السورية مي سكاف التي اعتقلت بداية الثورة السورية. 

مي قالت في حوار أجرته مع صحيفة القدس العربي بتاريخ 20 أيار/مايو 2013: "في فرع الأمن الجنائي أثناء التوقيف عند المخابرات سألني مدون التحقيق: "شو بدك إنت، بدك حرية؟" كان الضابط يسأل والمدون يسجل أقوالي في دفتره، وكان الضابط جادًا في سؤاله فهو يريد حقًا أن يعرف جوابًا حقيقيًا مني. قلت: "ما بدي ابني أنو يكون رئيسه حافظ بشار الأسد". توقف المدون عن التدوين ونظر في وجه المحقق خائفًا من تلك الجملة. وفي نظرته سؤال حائر معناه: هل أكتب هذا؟ إذ ذاك أعدت عليه الجملة باللغة الفصحى ورجوته أن يكتبها في التحقيق باللغة الفصحى حرفيًا: "لا أريد لابني أن يرأسه ابن بشار الأسد". نظر مرة أخرى نحو معلمه فقال له الضابط: "اكتبها". تخيل لم يجرؤ على كتابة ما قلت، صار يرجف ونظر في وفي المحقق وكأن نظرته كانت تقول: أكتب أم أضرب؟".

هناك فنانون لم يديروا ظهورهم للقتل الحاصل في بلادهم، ورفضوا الفصل بين الفن كرسالة وبين الدم الذي يملأ أرض الواقع.

هناك نماذج كثيرة للفنانين الذين لم يديروا ظهورهم للقتل الحاصل في بلادهم، ورفضوا الفصل بين الفن كرسالة إنسانية وبين الدم الذي يملأ أرض الواقع. واعتبروا أن الحرية والوطن والحب والكثير من هذه المصطلحات لا قيمة لها إذا كانت مجرد كلمات للأغاني الثورية الحماسية أو سيناريوهات للأفلام. إن لم تتحرر هذه الكلمات وتخرج من شاشة التلفاز إلى الشارع عند أول فرصة، فهي كلمات كاذبة ولا قيمة لها. في المقابل فإن الغلبة كانت للفنانين الذين اختاروا أن تكون حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي منابر لـ "تمسيح الجوخ" للرؤساء والأمراء برسائل المباركة والتعزية والتأييد والمبايعة. والمسافة بين الفريقين ليست فقط مسافة بين الذكاء والثقافة عند الفريق الأول والغباء والسطحية عند الفريق الثاني بل هي المسافة التي يولد بها الفن. الفن الحقيقي.

اقرأ/ي أيضًا: الزيارة العار.. البكاء على صدر جزار دمشق الصغير

دعونا نخصص الخاتمة لتوضيح هذه المسافة، الفريق الأول سيمثله خالد أبو النجا، بينما سنختار دريد لحام ليمثل الفريق الثاني. في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، واجه الفنان المصري خالد أبو النجا تهمة الخيانة العظمى والسعي إلى قلب نظام الحكم، جاء ذلك عقب تقديم المحامي المصري سمير صبري لبلاغين ضد الفنان إثر تصريحاته وانتقاده للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حيث صرح أبو النجا بأن "السيسي لو لم يعد قادرًا على حل مشاكل البلاد يجب أن يبتعد، وسنقول له ارحل، وقريبا سيسمعها، لأن الغضب قائم وهذا سيعيد إنتاج الثورة". 

أبو النجا استمر في نهجه الثوري منذ ذلك الوقت رغم الترهيب الذي واجهه كشخصية عامة اختارت أن تقول لا للنظام السياسي الدكتاتوري الذي يحكم البلاد. عندما تتابع حساب الفنان الشاب ستظن أنك تتابع حساب ناشط سياسي وحقوقي أو محامي يُعنى بقضايا المعتقلين السياسيين في سجون النظام. الفنان لا تفوته كبيرة أو صغيرة حول انتهاكات النظام وجرائمه، يعبّر عن رأيه بالاستناد إلى المعلومات والوئاثق. يشارك الأخبار والصور والتحليلات السياسية. يتفاعل مع القضايا المصرية والعربية، مطلع ومثقف، هذا ليس مديحًا للشاب فهو كان من الممكن أن يكتفي بوسامته ليحافظ على مكانته الفنية في قلوب الجماهير، ولكنه اختار الطريق الأصعب الذي لم يختره الكثير من الفنانين، وهنا الطريق لا تعني ما هو رأيك السياسي بل كيف تعبر عنه وكيف تبنيه بالأساس. 

أما دريد لحام فقد اختار طريقًا مختلفًا، اختار أن يهلل ويردد المدائح لنظام الأسد وحلفائه دون أن يستند في توضيح رأيه على المنطق والمعلومة، مكتفيًا بالعبارات الواسعة والكلمات الرنانة خلال مقابلاته التلفزيونية، دريد لحام يظن أنه ما زال يمثل في كل مرة يخرج فيها على شاشة التلفاز، يعتقد أن المشاهد سيكتفي ببعض كلمات غوار الطوشة، وأدائه المسرحي ليصدقه. متناسيًا أن الدم ليس مسرحية حتى يكون الفن مسرحية أيضًا. 

اقرأ/ي أيضًا:

اغسلوا سلم النقابة بالتراب سبع مرات

اقتحام نقابة الصحفيين.. جريمة سيساوية جديدة