30-نوفمبر-2015

الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند (Getty)

شهدت العاصمة الفرنسية باريس ليلة الجمعة الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني اعتداءات دموية إرهابية، هزت عاصمة الأنوار وخلّفت وراءها أكثر من 129 ضحية وأكثر من 325 جريحًا، طبعًا لم تمر هذه الأحداث الدامية مرور الكرام، بل كان لها ارتدادات وانعكاسات جمّة على السياسة الداخلية الفرنسية حيث فُرضت حالة الطوارئ وأغلقت الحدود ونزل الجنود الفرنسيون للشوارع الفرنسية في مشهد لم تألفه البلاد منذ الحرب العالمية الثانية.

المُتتّبع لردات الفعل الدبلوماسية الفرنسية يرى تحوّلًا وانحرافًا كبيرًا في الخط الذي كانت تنتهجهُ الدبلوماسية الفرنسية حيال القضية السوريّة

أمّا بخصوص السياسة الفرنسية الخارجية ودورها ومساهمتها في القضية السوريّة، فالمُتتّبع لردات الفعل الدبلوماسية الفرنسية يرى تحوّلًا وانحرافًا كبيرًا في الخط الذي كانت تنتهجهُ الدبلوماسية الفرنسية حيال القضية السوريّة، فالهلع وحالة الذهول التي طغت على البلاد وأثّرت على أمزجة الفرنسيين، انعكس صداها في أروقة الإليزيه، فتبدّلت الأقوال والمواقف التي كانت ترفعها وخصوصًا العبارة الواضحة التي كانت تختصر سياسة باريس "لا للأسد ولا داعش"، ومن المفيد هنا التذكّرُ أنّ فرنسا كانت من أكثر الدول صلابةً وحزمًا ضد الأسد فهي قطعت علاقتها مع نظامه في العام 2012، إضافة ًلمساعيها الحثيثة لعقاب الأسد عسكريًا بعد استخدامه الأسلحة الكيماوية في آب العام 2013 وكانت من أشد المتحمسين للمشاركة في توجيه الضربة العسكرية لنظامه لولا الخذلان الأمريكي الذي تمثّل بالصفقة الأوبامية-الروسية التي أنقذت رأس النظام عبر تسليمه للأسلحة الكيماوية والتخلّي عنها.

فرنسا التي كانت من أواخر الدول الأوروبية التي رفضت إعادة تعويم الأسد وكانت مقاربتها لمواجهة الإرهاب الذي تمثلّه "داعش"؛ هي القضاء بشكل متزامن على الأسد و"داعش" بوصفهما "كل" واحد لا يتجزأ لأن السياسة الاستبدادية والقمعيّة التي انتهجها الأسد حيال الشعب السوري المنتفض هي التي ساهمت في انتشار الإرهاب وتمدده على الأرض السوريّة، وتغاضيه المتعمد عن التنظيم المتطرّف الذي كان أداة لتصفية خصومه (الجيش السوري الحر وباقي الكتائب الإسلامية) هيأ للتنظيم وضعًا مريحًا كي ينمو ويوسّع مناطق نفوذه، علاوة ًعلى أنّه حقّق له ما رغب به وهو إسباغ الثورة السوريّة بلبوس التطرّف والإرهاب وهي الدعاية التي دأب الإعلام الأسدي على ترويجها وتكرارها منذ الأيام الأولى للثورة السورية. 

ملامحُ "الانتكاسة الفرنسية" يمكن تلخيصها بجملةٍ من المواقف والتصريحات التي صدرت عن مستويات القرار المختلفة في الدولة الفرنسية، فتصريحات الرئيس الفرنسي "فرانسوا أولاند" في السادس عشر من الشهر الجاري والتي قال فيها: "إن عدو بلاده الرئيسي هو تنظيم "الدولة الإسلاميّة" وليس الرئيس السوري بشار الأسد"، كانت مؤشرًا واضحًا وجليًّا على تغيّر الأولوية وانتقال هذه السياسة إلى المقاربة القائلة بهزيمة الإرهاب أولًا ومن ثم بلورة صيغة لعملية انتقالية سياسية قد يكون بشار الأسد خارجها وهذا يجعل السياسة الفرنسية تتلاقى مع الرغبات الروسية-الإيرانية التي تركز على هزيمة ما يعتبرونه الإرهاب في البداية، ولاحقًا يتم الحديث عن التسوية السياسية المبهمة والتي لا ذكر لدور رأس النظام فيها مع أنّ هذه المقاربة كانت محط نقدٍ شديد من قبل الإدارة الفرنسية التي كانت مواقفها مُتّسقة بشكلٍ كبير مع الرؤية السعودية-التركية التي ترفض أي دور للأسد في المرحلة الانتقالية المقبلة وتسعى لإزاحته إما بالوسائل السلميّة أو العسكرية كما أشار وزير الخارجية السعودي عادل الجبير لهذا أكثر من مرة.

استبعاد الأسد من دائرة خصوم فرنسا لن يعجّل بالقضاء على داعش كما يتوهم الرئيس الفرنسي ومستشاروه

ومن الملامح الهامة أيضًا لتحوّل السياسة الفرنسية وفقدانها البوصلة السليمة؛ هو لُهاث الرئيس أولاند تجاه روسيا "البوتينية" في محاولة لتشكيل محور فرنسي-أمريكي-روسي لمجابهة الإرهاب والتصدي له لكن هذا المحور ما هو إلاّ "محور أعرج" كما وصّفته الجريدة الفرنسية اليسارية "ليبراسيون" فالجميع يعرف أنّ الغارات الروسية في سوريا لم تستهدف داعش بل ركزّت غاراتها على المناطق التي تسيطر عليها "المعارضة المعتدلة" ولم تكنّ إلاّ تدخلًا لإنقاذ الحليف الضعيف بشار الأسد من الوضع المتهالك لقواته ومحاولة ًلتحسين الوضع الميداني لتستثمره لاحقًا في أية مفاوضات لحل "المعضلة السورية"، بينما الطرف الآخر من المحور وهو الرئيس أوباما فمن المعروف ألاّ نية جدية له في حلحلة الأمور في سوريا ولم تقدّم إدارته أي جديد بخصوص داعش أو الأسد على حد سواء، لذا فإن استبعاد الأسد من دائرة خصوم فرنسا لن يعجّل بالقضاء على داعش كما يتوهم الرئيس الفرنسي ومستشاروه.

المَعلم الأخر للتحول السلبي الذي طرأ على السياسة الفرنسية هو التصريح الأخير لرأس الدبلوماسية الفرنسية "لوران فابيوس" في معرض حديثه لقناة "ار تي ال" والذي نقلته وكالة فرانس برس حيث حدّد فابيوس الخطوات العمليّة والإجرائيّة الواجب اتخاذها في التصدي للدولة الإسلاميّة "داعش" وعبّر عن هذه الخطوات بقوله: "هناك سلسلتان من الإجراءات: عمليات القصف.. والقوات البرية التي لا يمكن أن تكون قواتنا بل ينبغي أن تكون قوات الجيش السوري الحر وقوات عربية سنية، ولم لا؟ قوات النظام وأكراد كذلك بالطبع!!

إذن فابيوس ذاته الذي كان أكثر الوزراء الأوروبيين صلابة تجاه الأسد وكانت تصريحاته تأخذ عادةً منحىً تصعيديًا إذ تصف الأسد بالمجرم السفّاح القاتل لشعبه، بل لطالما وصف الوزير فابيوس الأسد بأنه "مجرم حرب" واعتبر أنّه كان سببًا بوجود داعش ولطالما عبر في أكثر من مرة بأن الأسد والإرهابيين وجهان لعملة واحدة وساهمت وزارته بفتح المحاكم الفرنسية تحقيق حول "جرائم حرب" ارتكبها نظام الأسد.

 لكن كلّ ما سبق ذكره لم يمنع فابيوس من أن يدعو لائتلاف موسع يشمل الأسد لحرب داعش متجاهلًا بأنّ أكثر المستفيدين من هذه الانعطافة " اللاأخلاقية" التي انتهجتها السياسية الفرنسية هو الأسد الذي سيزيد من وتيرة جرائمه وعدوانه على السورييّن بحجة محاربة الإرهاب الذي لم تهزمه غارات التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا ولا القنابل الفوسفورية التي تلقيها الطائرات الروسية على المدنيين في الرقة، وحتى الغارات الفرنسية الانتقامية التي شنّتها فرنسا على الرقة التي وصفها فابيوس بـأنها "المركز الحيوي لداعش الذي انطلقت منه الاعتداءات ضد فرنسا" متناسيًا بأنّ "عبد الرحمن أبا عود" قُتل في ضاحية سان دوني الباريسية ولم يُقتل في شوارع الرقة.

المَنطوقُ "الأعوج" للسياسة الفرنسية اليوم، جرَّدها من تميزها وأخلاقيتها التي ميّزتها عن سياسات نظيراتها الأوروبية التي بات همها معالجة النتائج " تدفق اللاجئين إلى أراضيها" والتغاضي عن المُسبِّب الرئيسي لمشكلتي الإرهاب واللاجئين وهو الأسد الذي يريد الساسة الفرنسيون إعادة تأهليه وضمه للحلف الجديد ضد البعبع العالمي «داعش».

اقرأ أيضًا: 

كيف ستؤثر هجمات باريس على السياسة في فرنسا؟

عن الهجمات الأكثر دموية في تاريخ فرنسا