21-مايو-2016

يمني بين الأنقاض (خالد عبد الله / رويترز)

أتذكر الآن، وبشعور الحسرة والغضب، كيف أنه في مطلع العام 2011 سخر الناس من خطاب صالح المهدد فيه الجماهير بالصوملة، بل إنهم ردوا عليه إن كان سيهددهم بالصوملة فإنهم يهددونه بالتونسة، كان علي صالح مرتعبًا مما حدث في تونس، فاعتلى المنبر يذكرنا بجيراننا الصوماليين الذين بعد قرابة عقدين من المعاناة والجوع ونسيان العالم لهم، قرر هو أن يستخدمهم مثلًا، وتذكرهم اليمنيون كونهم حاضرين بقوة في شوارعهم ومدنهم ومثلوا دائمًا المأساة الإنسانية الأقرب لليمني الذي يعيش قريبًا من المأساة ولم يأخذ وقتًا طويلًا ليصل إليها.

كان علي صالح مرتعبًا مما حدث في تونس، فاعتلى المنبر يذكرنا بجيراننا الصوماليين

كان علي صالح جادًا، وثوار 2011 أكثر جدية، اعتقدنا جميعًا أن مرحلة الصوملة قد انتهت بانتهاء القرن العشرين، فلا الصوملة ولا اللبننة سيناريوهات واردة في عصر الثورات السلمية: فلا سلاح ولا استقطاب، هناك حلم يجمع الجميع، وبالتالي ارتكنا بأمان إلى أحلامنا وواجهنا تخويف سيناريو الصوملة بسيناريو أكثر وردية، السيناريو التونسي، كان الجميع مندفعًا، لكن على مدى الخمس السنوات الماضية، كان علي صالح أكثر جدية من أي أحد آخر، روح الانتقام التي حركته كانت من الخبث بأنها فاقت التوقعات، ومثل الفجأة مع أنها لم تكن فجأة أبدًا، أفقنا جميعنا، لنجد أنفسنا في الصوملة، والعرقنة والسورنة واللبننة وكل سيناريو آخر أنتجته المنطقة، وكان أكثر إرعابًا من أي قصة خيالية.

اقرأ/ي أيضًا: مخلفات الحرب.. آلاف المعاقين في جنوب اليمن

من المبادرة الخليجية وإجبار الثوار للرضوخ للتدخل الإقليمي، ثم اقتسام السلطة فوق جثث الشهداء وجراحات الجرحى، وصولًا إلى انهيار سعر الريال في 16 أيار/مايو، وبالطبع مرورًا بالعام 2015 الذي كان وبالًا على اليمنيين والذي يساوي في وباله سنينًا مجتمعة من حروب آخرين، فنحن أثبتنا بأننا الأسرع في الانزلاق والأسرع في الهلاك، كنا الأفقر وكنا الأكثر جهلًا وكنا بدون مؤسسات وبالتالي كنا الأكثر جاهزية للموت وللدمار والأكثر استعدادًا للجوع والانهيار، وفوق كل هذا كنا وما زلنا وسنظل الرقم الأكثر هامشية في المعادلات الدولية، يكفي أن السعودية تخوض حروبها الإقليمية على أجسادنا وإيران تجرب قوتها الخارجية على نفس الأجساد أيضًا، والعالم يشاهد كبيري المنطقة يتصارعان، فذلك يملك النفط والآخر يملك النووي، ما أهمية اليمني بأي حال من الأحوال؟

مشت اليمن في طريق الصوملة، باجتهاد كبير، تفجرت البلاد كالدمامل، واستيقظت كراهية غريبة، وحالت الرغبات دون أن يعي أصحابها الهاوية التي تنتظرهم، تحول الحوثيون من جماعة يشفق عليها المجتمع ويخشى إيديولوجيتها الكارثية، خاضت ستة حروب ضد الدولة في منطقة واحدة، إلى ميليشيا تملك السلاح والمال والمقاتلين وتزحف في مناطق الشمال، مستولية على المنطقة تلو الأخرى فارضة شروطها وأيديولوجيتها ومزيحة الدولة حتى وصلت إلى عقر دار الرئيس وحاصرته فيه، مع وزرائه وأعضاء حكومته، ثم خرجت علينا الحكومة الشرعية بفيلم "هروب منتصف الليل" الذي خرج به الرئيس هادي من العاصمة صنعاء في الشمال فارًا نحو عدن في الجنوب، لكن طائرات الجيش-الحوثيين- لحقت به إلى قصره في عدن، وقبل أن يستولوا على السلطة كان صالح في انتظارهم متشاركًا معهم السلطة واهبًا إياهم بقايا الجيش والعتاد، وقبل أن ندرك أننا نمضي في طريق حرب أهلية مؤكدة، كان الرئيس قد فر إلى السعودية، وكانت قوات الحوثيين تتجه نحو الجنوب الذي كان ينقصه القشة الأخيرة ليقول: أنا أكره الشمال جميعه وسأنفصل.

كانت قوات الحوثيين تتجه نحو الجنوب الذي كان ينقصه القشة الأخيرة ليقول: أنا أكره الشمال جميعه وسأنفصل

لا ينسى علي صالح وعيده، بينما لم يستطع اليمنيون التذكر لسرعة الأحداث وقوتها، فجأة، كان الجنوب (عدن-الضالع) تحت نيران الحوثيين، الذين باستماتة وباجتهاد قرروا أن يكسبوا جائزة أكثر ميليشيا قذرة على وجه الأرض، وفجأة أيضًا وفي ليلة بدون قمر، اجتمع العرب وأنشؤوا تحالفًا رهيبًا، استعرض قوته الأوروبية الأمريكية (بائعي السلاح وخاصة بريطانيا) في سماء البلد الفقير المقتتل، واستباح مدنها وجبالها وقراها وشوارعها ومزارعها وتاريخها وقبل كل هذا استباح إنسانها، فلم يظهر حتى في نشرات الأخبار، تسأل نفسك: هل التحالف كان يتوعد مع علي صالح؟ إذ إنه وبدرجة ما أنجز وعيد علي صالح بالصوملة، فسحقت البلاد طولًا وعرضًا شمالًا وجنوبًا بتكاتف أخوي قذر بين قوات علي صالح والحوثيين والمال الإيراني من جهة وبين التحالف العربي من جهة أخرى، كان هذا التكاتف يفعل فعله بصورة جلية في مدينة بائسة اسمها تعز، حتى اللحظة تدك شوارعها بالقذائف الحوثصالحية، ويموت سكانها بشتى الطرق جراء حصار تفرضه ذات القوات عليها، ثم تأتي طائرات التحالف مهرولة بسرعة واقتدار، فتختار قرية ما، حفل زفاف، مجمعًا سكنيًا لتبيده، تاركة دبابات الحوثصالحيين تتبختر في الطرقات وإمداداتهم تعبر المدن.

اقرأ/ي أيضًا: الكهوف.. سكن النازحين جنوب اليمن

إنهم في الكويت الآن بينما أسرد لكم طريق الصوملة اليمني، الذي اختتم بانهيار مريع للريال اليمني المقاوم ليصبح الدولار 350 ريالًا يمنيًا ولترتفع الأسعار إلى الضعف. الريال اليمني الذي توقع الجميع انهياره في نهاية العام 2015 لكنه استمر في المقاومة، ربما رأفة بملايين الجياع في البلاد، لكنه وصل لنهايته بالتوازي مع أزمة المشتقات النفطية وانعدامها من السوق، وأخبار عن احتمالية عدم تسديد رواتب من تبقى من الموظفين، وحيث تشتعل جروبات الواتساب ومواصل التواقع الاجتماعي برسائل محمومة يناشد فيها الأهل والأصدقاء بعضهم بعضا الإسراع لشراء المؤونة التي تقول الأخبار أنها ستختفي تمامًا وسترتفع أسعارها بشكل خيالي، خاصة مع قدوم رمضان، خرجت فئة من المستفيدين إياهم وغنت أنه حتى لو انهار الريال وتعشى الأربعة منهم "جرادة" فإنه لا تفريط في السيادة وصامدون صامدون! بالضبط، إنه ما يخطر على بالك الآن، فهناك مستفيدون كثر وناهبون للبنك المركزي ولأمواله.

هذا الطريق الدامي المشحون بالدم والكراهية الذي حذا أيضًا بالذين استعدوا لوحدة الجنوب عام 1990، بأن يطردوا حاملي هويات صادرة من الشمال، عمال وبائعي بسطات بسيطة وأساتذة جامعة وطلبة وكل الفئات، في موجات من الكراهية والعنصرية المناطقية، وضياع الأولويات بالخلط بين أولوية الأمن والجانب الأخلاقي والإنساني، إذ في هذا الجري المحموم نحو أكبر قدر من الخسارات البشرية والأخلاقية، لم تعد هناك أولوية غير بسط القوة على الأرض وإثبات المقدرة، لكن هذه المقدرة تبدو خرساء أما انهيار الاقتصاد، وتبدو ضئيلة أمام الناظر من أعلى: تشظت البلد فهذا يقتتل مع ذاك ويدورون في نفس الدائرة، وغدًا سيقولون وداعًا لليمن التي نعرفها، تمامًا كما قالت الصومال، وسيأخذ كل حصته، وسيبتاعون بها مزيدًا من الدماء، والجوع الذي يبدو كطير خرافي يقترب من اليمنيين لن يوفرهم أيضًا، إذ إن جيرانهم الصوماليين دفعوا ما يقرب من ثلاثين ألف مدني كموتى للجوع في أول سنة حرب أهلية.

تشظت البلد، فهذا يقتتل مع ذاك ويدورون في نفس الدائرة، وغدًا سيقولون وداعًا لليمن التي نعرفها

لا يمكن إيقاف هذا، تلك هي الحقيقة، والذين في الكويت يغردون على مواقع التواصل الاجتماعي لا تعنيهم مناشدات الأمهات لأبنهائهن جلب أسطوانة غاز أخرى، ولا انتحار الآباء كونهم فقدوا آخر أمل في إعالة أسرهم، ولن يكون هناك سلام، لأن السلام يحتاج إلى صانعي سلام، ومن يمكن أن يجلبه لليمن: جماعة الحوثيين المخضبة أيديها بالدماء؟ أم علي صالح قاطع الطريق والمجرم الأكبر؟ أم الحكومة الشرعية برئاسة هادي ومن معه والذين تركوا للبلاد للجحيم وفروا إلى السعودية ولم يخرج حتى بتصريح واحد يثبت فيه أنه رئيس حتى بالكلام؟ أم ستحققه السعودية مثلًا وهي التي لم ترد يومًا سلامًا ولا حياة في جارتها اليمن؟ وهل سيرعاه الكويتيون الذين شاركت طائراتهم في قصف البيوت اليمنية؟ 

إذن، بسرعة قطعنا الطريق إلى الصوملة، لكنني أصلي ألّا نمضي فيها كما مضى فيها أولئك البائسين، فعلى الأقل هم عبروا البحر إلى أراضينا ومن ثم إلى العالم، بينما نحن ينتظرنا قراصنة البحر، وقتلة الحدود ولا مفر منها إلا إليها.

اقرأ/ي أيضًا:

أشتم إكرامًا للمنطق

عمائم ومكائد