21-أغسطس-2016

إقامة صلاة الجنازة على قتلى المستشفى الميداني أثناء مجزرة رابعة

مرت ذكرى مجزرة رابعة العدوية، التي ارتكبها النظام المنقلب على الشرعية في مصر، وذكرى مجازر مختلفة ارتكبتها الأنظمة العربية في السنوات الأخيرة. ويعود النقاش عن جريمة النظام المنقلب وغيرها، على الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، محملًا بأبعاد أخرى مختلفة هذه المرة، نتيجة التغيرات الطارئة على المنطقة العربية جميعها. ولعل أول ما يخطر على البال مع عودة هذا النقاش، هو الموقف الساقط أخلاقيًا لليبراليين العرب، والمسقِط ادعاءات أصحابه الكبرى عن الحرية والمساواة ومناهضة العنف. فقد وقف أصحاب هذه الشعارات مع العنف الذي مورس ضد الإسلاميين في مصر وفي مناطق مختلفة من الوطن العربي، فقط لأن ضحاياه إسلاميون.

هذا الموقف ليس عابرًا، ولا جديدًا، وقد يكون متعلقًا بالأساسات العملية للنظرية الليبرالية العربية أصلًا، وتاريخ طويل من التلازم بين التحديث الليبرالي والعداء الفاشي ضد حركات الإسلام السياسي.

استخدام مبررات الإرهاب والتطرف من أجل تبرير جرائم أنظمة وديكتاتوريات، والتهرب من إدانتها حجة أصيلة في ذهن الديكتاتوريات العربية، وليست حكرًا عليها

اقرأ/ي أيضًا: الخبز والسلاح والطبقات الآمنة

الأساسات العملية لهذه النظرية ولهذا التلازم، استندت إلى سياقات مختلفة، بدءًا من استلهامها لنموذج أوروبي محدد، تنويري ينطلق من المقولات التقليدية للعلمانية المحملة بالعداء ضد الدين، أو بسرقة الدولة لقداسة الدين لا تحييده فقط. فليس صدفة أن ظهور أنماط مثل ما أوجدته دولة الحبيب بورقيبة وغيره من الفاشيين "التنويريين" كان مع ظهور النزعة القومية المفرطة، أو الدولة العسكرية الصارمة في حالات البعث والناصرية. 



من هذا التناقض يمكن التأريخ للنظرية الليبرالية العربية التي بدأت فارغة، وكان في النماذج العملية منها، التي فرضت بالقوة، مثال واضح، على غرار ما صار في تونس بورقيبة ومصر عبد الناصر وغيرهما في تلك الفترة، فتشكلت على فاشية واضحة ضد التدين، معرِّفة نفسها من خلال عدائها له، ساعية إلى تطهير الفضاء العام من أي مظاهر متعلقة به، ومعتبرة أن حركة التحديث تبدأ من التناقض مع الدين الشعبي أولًا، وحركات الإسلام السياسي فيما بعد.

ما يحدث اليوم، من إنكار حركات ليبرالية ويسارية لجرائم الفاشيات العربية، نتيجة ليست منقطعة عن كل ما ذكر إذن، وهذا التصور عن التناقض المذكور قديم، كما أن استخدام مبررات الإرهاب والتطرف من أجل تبرير جرائم أنظمة وديكتاتوريات، والتهرب من إدانتها حجة أصيلة في ذهن الديكتاتوريات العربية، وليست حكرًا عليها. لكن الطريف فيما يحدث اليوم أن الليبراليين ومعظم حركات اليسار في الوطن العربي، تستخدم بعد الثورات العربية  نزعة العداء ضد حركات الإسلام السياسي، والأوصاف المتعلقة بهذا العداء، ومفهوم الإرهاب تحديدًا، بالضبط كما تستخدمه حركات اليمين الأوروبي والأمريكي. أي النسخة الأوروبية المبررة قمع المهاجرين واللاجئين بحجج العنف المحتمل، الذي تتصف به حسب هذا الذهن مجموعات إثنية وثقافية كاملة.  

ما يحدث اليوم وما أثير حول سوريا مثال إجرائي وواضح على هذا الادعاء، فقد تقاطعت الوعود التنويرية من النظام  (تحديدًا بعد ظهور داعش) مع الوعود بالمقاومة والممانعة، ومع مغازلة للدول الأوروبية وللولايات المتحدة في نفس الوقت، فكان هناك تأكيد دائم أن محاربة النظام للإرهاب في سوريا ومعركته، ستخلص العالم من الإرهاب، وأن ما يقوم به النظام السوري وحلفاؤه في سوريا اليوم على لسان قياداته، هو دفاع عن أمن المنطقة جميعها وعن أمن العالم.

اقرأ/ي أيضًا: عنا، نحن هؤلاء الضحايا

الاستنتاجات من متابعة وسائل إعلام الديكتاتور وحزب الله وإيران، أثناء الهجمات التي تعرضت لها مدن أوروبية، وتأكيدها على أن ما يجري يزيد من أهمية إنجازات جيش النظام، لأنه يواجه خطرًا له تهديد عام، تحيل بوضوح إلى التوافق بين خطاب النظام السوري الهجين، الذي يستند إلى مرجعيات غير مفهومة، ليبرالية وعلمانية أحيانًا، ودينية طائفية ووطنية، وبين الخطاب السياسي الأوروبي العنصري تجاه اللاجئين. فالنظام بترويجه لهذه المقولات، يؤكد أن هناك رابطًا فعلا بين "الإرهاب" في سوريا وبين الهجوم على المدن الأوروبية الذي يُحمّل اللاجئون والمهاجرون مسؤوليته، فيبرئ النظام البيئة الأوروبية وظروف تهميش وتمييز المهاجرين هناك، من علاقتها بما يحدث. النظام وحلفاؤه من الليبراليين واليساريون يؤكدون ببساطة مقولة الخطر المحتمل التي تستخدمها أحزاب اليمين الأوروبي تجاه المهاجرين، فربط ما يحدث في سوريا بما يحدث في المدن الأوروبية هو تأكيد على الروابط الدينية والإثنية والسياسية التي تضعها هذه الأحزاب بين الإرهاب والإسلام والمسلمين.

بهذه الطريقة، يلاحق النظام السوري السوريين أينما ذهبوا، يهجّرهم باسم الوطن والمقاومة، ويلاحقهم بتأكيد التهم الموجودة مسبقًا عليهم، بحجج الليبرالية وتخليص العالم والمنطقة من خطر التطرف الإسلامي. ونحن نعرف جيدًا أن كلا الخطابين فارغان، سواء خطاب المقاومة الذي لا يرتبط سوى بمقاومة رغبات السوريين بالحرية وتحقيق دولة مدنية ديمقراطية، أو سواء الشعار الآخر المرتبط بالليبرالية ومواجهة الإرهاب في المنطقة، الذي لم يكن إلا خطابًا يمارس وعودًا ومغازلة للدول الأوروبية ويحاول استجداء التقاطع معها في المصالح.

حال الاستبداد في الوطن العربي واحدة، وعداؤهم "للإرهاب الإسلاميّ" على حد وصف جرائد النظام "التقدمية"، ما هو إلا مبرر واضح للديكتاتوريات التي تسعى دائمًا إلى تبرير وجودها من خلال خطر وتهديدات مسبقة. هكذا بدأت خطابات التنوير الفارغة إلا من ظلمات القمع والقهر، التي تحولت إلى عداء منهجي ومقصود لحركات الإسلام السياسي، أو لمجموعات "إرهاب" أول من يتهم بخلقها هو الأنظمة. هكذا كانت الحال قبل الثورات العربية من بدء تأسس هذا الخطاب، وهذه هي الحال بعد الثورات العربية، فمثل هذا الخطاب أصيل في ذهن الديكتاتور العربي كما قلنا، أصالة تحيلنا إلى التأكد باستمرار، أن من يحتاج هذه المجموعات "الإرهابية" فعلًا هو الأنظمة وليس الثورات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أيادي السيسي الناعمة

مصر.. عبودية الاستقرار