19-سبتمبر-2016

لاجئون سوريون في محطة السكك الحديدية بمدينة بودابست، سبتمبر 2015

تقول التقارير إنّ مقاتلين من معظم دول العالم يحاربون في سوريا، وتقول وقائع الحرب المتغيرة بشكل يومي إنّ جيوش عدد من الدول تقاتل بعضها بعضًا هنا. المعطيات تتغير من يوم إلى يوم وخارطة توزيع القوى فوق الأراضي السوريّة تتغير من يوم إلى يوم. القوات المدعومة تركيًا تتقدم اليوم في منطقة والقوات الكرديّة المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكيّة تتقدم في يوم آخر. قوات النظام وحزب الله وإيران المدعومة روسيًا تربح هذه النقطة لتخسرها بعد أسبوع. داعش التي تضم في صفوفها أكثر من ثمانين جنسيّة تحتل مدينة في يوم وتخسرها في يوم آخر.

علينا أن نثبت كلّ يوم أنّنا أشخاص طبيعيون لا نأكل البشر. كلّ دقيقة وفي كلّ موقف، حتى مع أصدقائنا غير السوريين أحيانًا، علينا أن نثبت أنّنا بشر مثلهم وأنّنا متألمون

بالصورة المجملة نظام الأسد خسر الكثير من مناطق نفوذه خلال خمس سنوات لكن في الوقت الراهن ولحظيًا لا رابح في هذه الحرب والخاسرون هم السوريون بمختلف أطيافهم. هؤلاء خسروا دولتهم بحدودها الجغرافيّة وبحجارتها وأبنيتها وخسروا نصف مليون قتيل على الأقل وآلاف المفقودين. السوريون ربحوا ذاكرة مليئة بالخراب. ذاكرةٌ مقبرة، هي أقل وصف يمكننا أن نصف به ذاكرة السوريين هذه الأيام.

السوريون اليوم لاجئون في كلّ مكان، في دول الجوار وفي أوروبا وأمريكا وكندا ودول آسيا. لي صديق لم يسعفه الحظ في الوصول إلى أوروبا بسهولة، كان قد اتخذ طريقًا طويلًا يمر من بعض الدول الآسيويّة، عاش لمدة سنة في إحدى قرى جبال الهيمالايا دون أوراق ثبوتيّة، وأخيرًا سيتجه صديقي هذا قريبًا إلى إحدى الدول الأوروبية ليبدأ رحلة لجوء جديدة.

اقرأ/ي أيضًا: المجازر ككوارث طبيعية

نحن اليوم لاجئون في كلّ مكان. نحن من هربنا من هذه الحرب المجنونة التي بدأها نظام مجنون منعنا من أن نطالب بحريتنا. نحن هاربون من كلّ شيء.

لكن يبدو أن هذا الألم لا يكفينا، فنحن -الهاربين من كلّ أنواع الموت- علينا أن نثبت حسن نيتنا وحسن أخلاقنا في كلّ دقيقة وفي كلّ ثانية كي لا يخافنا العالم، فنحن سوريون قادمون من بلاد الحرب، نحن من نُقتل كلّ يوم علينا أن نثبت أنّنا لطفاء ولا نهاجم البشر في الشوارع الغريبة.

علينا أن نتعلم لغات جديدة وأن نبدأ حياتنا من جديد وأن نندمج في سوق العمل وأن ندفع الضرائب وأن نكون مواطنين صالحين وأن لا نقع في مشكلات قانونيّة. علينا أن ننسى كلّ ما يجري في بلادنا علينا وأن نبدأ حياة جديدة. لا يهم إن قُتل اليوم مائة شخص في سوريا في الحي الذي كبرت فيه في مجزرة نفذتها إحدى الطائرات المحلقة في سماء "بلادك". لا يهم فنحن لا نحس، لسنا بشرًا.

اقرأ/ي أيضًا: سوريا.. تطورات الـ 48 ساعة الأخيرة

أعرف أستاذًا جامعيًا في ألمانيا أعطى طالب دراسات عليا إجازة عن العمل على أطروحته لمدة سنة لأنّ زميله في غرفة السكن الجامعي قد انتحر، وحالة الطالب النفسيّة لا تسمح له بالتركيز على المواد العلميّة. لكنه كان يثور غضبًا لأنّ الطالب السوري، الذي يساعده هذا الأستاذ الجامعي مشكورًا، القادم من مدينة دير الزور التي احتلتها داعش وفعلت بها العجب العجاب، لم يستطع التعود على مدرسة اللغة الألمانيّة بعد ثمانية أشهر من قدومه إلى هنا.

نحن اللاجئين علينا أن نثبت كلّ يوم أنّنا أشخاص طبيعيون لا نأكل البشر. كلّ دقيقة وفي كلّ موقف، حتى مع أصدقائنا غير السوريين أحيانًا، علينا أن نثبت أنّنا بشر مثلهم وأنّنا متألمون وأن بلادنا تذبح كلّ يوم. علينا أن نقول لهم بأنّنا لسنا وحوشًا بكلّ الطرق.

لا أغالي في وصفي صدقوني. أعلم أن الكثير من البشر في كلّ مكان خسروا الكثير، خسروا أصدقاءهم وعائلاتهم ومدنهم مثلنا تمامًا، وأعلم أنّنا لسنا الوحيدين الذين واجهنا هذا خلال تاريخ البشريّة الملوّن بالدماء. في الوقت نفسه أعلم أنّ العالم لم يكن عادلًا معنا في حربه كما لم يكن عادلًا معنا في مواساته لنا.

لا أتوقع مساعدة واحترامًا في التعامل من حكومات ودول يدها ملطخة بدماء غيرنا، كما لا أتوقع ذلك من منظمات دوليّة كالأمم المتحدة، التي أظهرت تقارير أخيرة كيف موّلت نظام الأسد، الذي كان السبب الرئيسي في لجوئنا، بطرق غير مباشرة. لكن الألم والقهر يأتي من معاملة بشر مثلنا لنا بهذه الطريقة. هي صرخة ألم وقهر في وجههم ربما.

قال الكاتب السوري فاروق مردم بك مرة: "ما فهمناه في محنتنا، نحن السوريين، أنّ أصدقاءنا اللبنانيين أنبل الأصدقاء، وأنّ أعداءنا اللبنانيين أنذل الأعداء. فهم الفلسطينيون ذلك قبلنا". وأستطيع أن أعمم هذا على كلّ الجنسيات. إنّ أصدقاء اللاجئين السوريين، القليلين حول العالم، هم أنبل الأصدقاء وإنّ أعداءهم والخائفين منهم، وهم كثر، هم أنذل الأعداء، فهم اللاجئون من بلاد مظلومة، مثل بلادنا، ذلك قبلنا.

اقرأ/ي أيضًا:
الاتفاق الروسي الأمريكي..هدنة الطرف الواحد
عملية إماتة القلب.. تمت بنجاح