13-مارس-2016

تنشقت طرابلس بعض الروائح القادمة من أيام حربها الأهلية بعد الطوفان السوري (الأناضول)

تماهى سنّة لبنان مع عبد الناصر، ومع مشروعه القومي والعربي، لم يقيموا أي وزن لتداعيات هذا المد الهادر، وما أفرزه من وحدة تلفيقية جمعت مصر وسوريا في بوتقة واحدة، كان الأمر أشبه بجماح جماعي نحو الخروج إلى زعامة عابرة للحدود والجغرافيا، لم يكن لبنان في رأس أولوياتهم، وكذلك هي الحال مع الوحدة الداخلية والعيش المشترك والهوية الوطنية والكيان النهائي.

حافظ سنة لبنان على الحد الأدنى من الاستقرار المطلوب، ورفضوا أي انحراف جماعي نحو الهاوية

من عبد الناصر إلى ياسر عرفات، دخل السنّة إلى قلب المواجهة الفعلية على خط النار، وقفوا بحزم إلى جانب القضية، ولو على حساب مدنهم وأرزاقهم ومستقبلهم، لم يكن الموقف هنا انطلاقًا من المنظور التاريخي والعقائدي لمفهوم الأمة وحسب، بل شكّل انصهارًا حول تلازم فعليّ للمسار والمصير المشترك، ضمن معادلة حديدية عصيّة على الفهم التقليدي أو الانشطار المستحيل لمتلازمة عابرة للنصوص الوضعية والقوانين الناظمة.

اقرأ/ي أيضًا: نصر الله لفرنجية: ذبحتنا يا صديقي

مع اتفاق الطائف، انتقل السنّة من ضفة إلى أخرى، كان الانتقال أشبه بمخاض عسير لولادة مستحيلة، راهن الجميع على تفكك هذه المعادلة المستجدة مع أول صراخ في المحيط، اعتبروا أن القبضة الأمنية، إضافة إلى العجز العسكري واندثار الزعامات، ساهم في كبح جماحهم وتقليم أظافرهم على نحو يُظهرهم بصورة لا تشبههم.

هذا الرهان ما لبث أن تحوّل رويدًا ليطال النظرة الشمولية والمفهوم السياسي والأمني على مستوى المنطقة برمتها، لا سيما لجهة انحطاط جماعي رافق مرحلة ما قبل الربيع العربي. لاحقًا تمحورت كل النظريات حول ما بعد الربيع، قالوا: "ما إن تشتعل دمشق وأخواتها، حتى يخرج المارد السنّي ليحرق الأخضر واليابس، انطلاقًا من وادي خالد وصولًا إلى رأس الناقورة، بل وحتى آخر أزقّة عرسال ومجدل عنجر".

الحقيقة أن ذلك لم يحدث، رغم كل العوامل الجاذبة والضاغطة، فقد مرت خمس سنوات على انطلاق الثورة السورية، وما رافقها من استهداف مُمنهج، ومن تغيير ديموغرافي لا لبس فيه، إضافة إلى مشاركة حزب الله الوازنة والفاقعة في القتال إلى جانب النظام، ناهيك عن مسيرة طويلة من سحق زعامتهم السياسية، وتلغيم مناطقهم بما تيّسر من خلايا مستفزة تحت مسميات مختلفة. لكن سنّة لبنان حافظوا على الحد الأدنى من الاستقرار المطلوب، ورفضوا أي انحراف جماعي نحو الهاوية، تعاملوا مع الخطاب المتشدد بعقل بارد، وقاربوا مواقفهم انطلاقًا من المصلحة الوطنية التي باتت تتصدر أولوية أولوياتهم.

اقرأ/ي أيضًا: لا تكن مثل سمير!

بالأمس، خرجت الإحصاءات لتؤكد بأن غالبية السنّة عبّروا عن تأييدهم لوصول سليمان فرنجية إلى سدة الرئاسة، مع ما يعنيه هذا التأييد في مضامين السياسة، وبعد أن كانوا جميعًا يعترضون على مجرد الكلام حول ترشيحه من قبل الرئيس الحريري، ما يعطي انطباعًا واضحًا وأكيدًا حول رغبة الكثرة الكاثرة بالخروج من عنق الزجاجة التي طوقتهم منذ اغتيال رفيق الحريري، ولو عبر توافق غير مفهوم وغير مقبول، المهم أنه يؤمن الحد الأدنى من الاستقرار والدولة والمؤسسات.

 تأييد سنة لبنان لترشيح فرنجية، يعطي انطباعًا حول الرغبة بالخروج من عنق الزجاجة التي طوقتهم منذ اغتيال رفيق الحريري

في لقائي الأخير مع وزير الداخلية نهاد المشنوق، بدا الرجل متفائلًا جدًا في هذا الإطار، يقول: كبار رؤساء المخابرات العالمية يتحدثون عن بضع مئات من الشبان اللبنانيين الذين يقاتلون في سوريا، وهو رقم يكاد يوازي عدد الأستراليين المنخرطين في النزاع. يضيف: "طرابلس، مثلًا، صُنفت للمرة الثانية بأنها أفقر مدينة على ضفاف المتوسط، وأهلها يرتبطون بالدين والدم والتاريخ والجغرافيا مع سوريا وشعبها، ورغم ذلك، عدد الشبان المنخرطين أقل من عدد الأستراليين القادمين من وراء البحار. هذا يشعرني بالكثير من الأمل والتفاؤل".

ضمن هذا السياق، يسعى العقل السياسي السنيّ، الذي يضج بوافر الضيق والظلم والغضب، إلى اجتراح كوة في هذا الجدار الكبير، يحاول أن يبحث عن متنفس يفوّت فرصة الانفجار الحتميّ، يصرّ مع إشراقة كل صباح على التمسك بصفته التاريخية وهويته الوطنية ودوره العابر للصغائر والأزقة، لا شيء هنا يوازي غلبة العقل في خضّم هذا الجنون، لا بد من البناء على هذا الأمل، بل والسير قُدمًا نحو تحصين هذه الحالة وحمايتها والكف عن دفعها بعنف نحو شر مستطير. 

وهنا نعود لنذكّر بمقالة المشنوق الأخيرة قبل ثلاثة أعوام، والتي دق عبرها ناقوس الخطر أمام التعاظم الموصوف لاستهداف طائفة برمتها، يقول في محصلتها ما حرفيته: لن يطول هذا الالتباس، وبانتظار دولة لا تلوح في الأفق، كثير من أهل السنّة القابضين على الأرض سينقلبون على صفتهم التاريخية لصالح أهل النصرة الممسكين بالتاريخ، وسيذهب المعتدلون أو ما تبقى منهم إلى منازلهم.

اقرأ/ي أيضًا:

خريف نهاد وأشرف

"14 آذار" وفلسطين.. اسمع تفرح جرّب تحزن!