13-ديسمبر-2015

حاجز للجيش السوري في دمشق 2013 (علاء مرجاني)

إن القلة القليلة فقط في مجتمعاتنا العربية هم القادرون على إقامة علاقة عاطفية طبيعية تخلو من تبادلية الخضوع والسيطرة، وهذا بطبيعة الحال عائد إلى ثقافة هذه المجتمعات التابعة لسلطات متعددة تبدأ من سلطة الأب في البيت، مرورًا بالسلطات الدينية والاجتماعية والسياسية في المجتمع. 

لماذا استطاع هذا الجندي أن يقتل ويحرق ويغتصب وهو مبتهج ويصور نفسه، وكأنه يقوم بعملٍ بطولي؟

وقد أفرد الباحث مصطفى حجازي بحثًا مطولًا حول هذه النظرية في كتابه "سيكولوجية الإنسان المقهور". لنفترض أن هناك فتاة "س"، خاضعة خضوعًا مطلقًا لحبيبها تحت مسمى الحب، نجد أن هذه الفتاة تكاد لا تتصرف بأي شأن من شؤون حياتها دون العودة إلى المرجعية "الحبيب"، الذي سيحدد لها نوع أصدقائها وألوان ثيابها ومواعيد ذهابها وإيابها، المهم أن هذه المرجعية لديها من المؤهلات ما يكفي لتشعر الفتاة "س" أنها بأمان تجاه المستقبل وأنها تستطيع الاتكال عليه في أصغر تفاصيل حياتها، وفي المقابل لدينا شاب، وليكن "ع"، وجد في علاقته العاطفية ملجأ للتخلي عن كل علاقاته الاجتماعية التي تشعره بالتنافس والتنافر الدائم، وسلّم نفسه تسليمًا مطلقًا إلى من يُفترض أنها شريكته، وأصبح قابلًا لأن يغير كافة أنماط حياته التي تفرضها عليه الشريكة، من أجل الحفاظ على هذا الاستقرار العاطفي، الحقيقي أو المتوهم.

من المفارقة أنه قد تكون الفتاة "س" هي نفسها الفتاة التي تخص الشاب "ع"، والعكس صحيح أيضًا، وهذا ما نطلق عليه في علم النفس الاجتماعي "جدلية الضمير التسلطي"، ولإيضاح اللبس الذي يقع فيه الكثيرين علينا التأكد أن نموذجي الشخصيتين السابقتين هما من ذوي الشخصيات التي تتمتع بضمير تسلطي. باختصار إن حالة الخضوع الموجودة لدى الفتاة "س" والشاب "ع" هما نتاج لضميرهما التسلطي، فالفتاة "س" يبدو أنها في علاقة مع طرف يمتلك السلطة الكاملة عليها، فأشبع لديها ضميرها التسلطي الذي يقنعها بأنها من الممكن أن تتكل عليه في كل شيء حتى في اختيار ثيابها وأصدقائها، أما الشاب "ع" فقد فقد شعوره بسلطته، الزائفة أو الحقيقية، وأصبحَ طيعًا وقابلًا للتنازلات بشكل يدعو للصدمة، وفي الحالتين سيفضل كل من الفتاة "س" والشاب "ع" أن يتعرضا لأسوأ أنواع العذاب، ولكن دون أن يتخلى الطرف الآخر -أي طرف السلطة- عنه أو يرفضه.

ما حدث لقابيل عندما رفض الله -السلطة المطلقة- قربانه، يدخل في ذات باب الضمير التسلطي، فكل هم قابيل كان أن يكون مقبولًا من قبل سلطة الله، وكان قابيل على استعداد أن يمزق نفسه من أجل هذا القبول، ولكن الله اختار قربان هابيل الذي قدم أفضل ما عنده. الذي يهمنا من هذه المقاربة هي الحالة التدميرية التي وصل لها قابيل تجاه ذاته، وبالتالي تجاه أخيه وقتله، والواضح أن الله لم يعاقب قابيل ولكن تخلى عنه، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث للشخصية ذات الضمير التسلطي، فالعقاب يعني أن السلطة لا زالت مهتمة بي وعقابها لي كان من أجلِ محو آثامي.

لعل ما سبق يمكن له أن يفسر جزءًا مهمًا من التدميرية والسادية التي مارسها بعض جنود الأسد على المعتقلين. لماذا استطاع هذا الجندي أن يقتل ويحرق ويغتصب وهو مبتهج ويصور نفسه، وكأنه يقوم بعملٍ بطولي؟ إنه ذات المرض لسيطرة الضمير التسلطي، ولكن بأقسى أشكاله. ولنكن واضحين أكثر فالقضية هنا تطرح على أنها إشكالية حقيقية لا يعاني منها قتلة الأسد فقط، بل هي قضية بدأت منذ التكوين، ولدينا الكثير من النماذج القريبة والمسجلة (صبرا وشاتيلا مثلًا)، وفي الحالة السورية أصبح لدينا العديد من السلطات ولكن الضمير التسلطي لا يزال واحدًا لدى الكثيرين، فأصبح القتل يتعدد بتعدد السلطات المطلقة والفريدة والكاملة القدرة كما يراها أتباعها، فمن أين يتغذى هذا الضمير؟

الضمير التسلطي هو صوت السلطة الخارجية الذي يتغلغل في النفس، وليس مهمًا إن كانت سلطة الدولة أو الأب

إن الضمير التسلطي، بحسب إريك فروم، هو صوت السلطة الخارجية الذي يتغلغل في النفس، وليس مهمًا شكل السلطة إن كانت سلطة الدولة أو سلطة الأب أو السلطة الدينية أو أي سلطة أخرى. المهم أن هذه السلطة تطرح نفسها كمرجعية أخلاقية على ضمير الفرد، والخوف هو المحرك الأساسي الذي تنتهجه من أجل تثبيت سيطرتها، بمعنى أننا إذا أردنا أن نتكلم عن الضمير بشكل منفصل فنحن هنا نتكلم عن وازع أخلاقي نابع من ذات الفرد الذاتية، أي ما يراه الفرد صحيحًا أو خطأ. 

ولكن عندما تأخذ السلطة دور المرشد للخير والشر، ويصبح تلقف ضمير الفرد لها خارجيًا ويعيد إنتاجه من ذاته فيتهيأ له أن أي انحراف عن طريق السلطة هو تأنيب لضميره وكأنه انحراف نابع من ذاته، ولكن الحقيقة أن خوف الفرد من السلطة التي تفرض العقاب هو ما يجعله في حالة تأنيب الضمير، وارتباط الضمير التسلطي للفرد بهذه السلطة هو من باب شعوره بالأمان والسعادة الذي تُوهمه السلطة أنها تمنحه إياه كالفتاة "س" التي تشعر بالطمأنينة كونها خاضعة خضوع مطلق لحبيبها المسيطر، بل ويزداد إعجابها به يومًا بعد يوم. 

وإذا أردنا أن نتعمق في اعتقاد الضمير التسلطي بمدى تأنيبه، يكفي أن نراقب أفعال سلطة النظام السوري الذي بدأ حربًا هوجاء نحو المتمردين على سلطته، ولا زلنا نسمع إلى الآن خطاب بشار الأسد الشهير عن ملايين السوريين الإرهابيين وفشلهم على المستوى الأخلاقي الذي يضع نفسه فوقه ويحدد نفسه كأنه مصدر للأخلاق، وهذا طبيعي لدى شخصية السلطة التي تخلق ولا تُخلق والتي تأمر وتنهي ولا يؤمر وينهى عليها، لدرجة أن أتباعه يطالبون المتمردين على سلطته بأن يقولوا "لا إله إلا بشار". 

إن هؤلاء التابعين من أصحاب الضمير التسلطي الجيد هم على قناعةٍ مطلقة أنهم يعملون وفق ضميرهم، لذلك لا يشعرون بالتأنيب عندما يقومون بقتل أصحاب الضمير التسلطي السيئ، والمفارقة هنا أن الاستقلالية والعزة والكرامة تصبح هي الضمير التسلطي السيئ بالنسبة للسلطة المسيطرة، ومن جانبٍ آخر يمكننا فهم قيام النظام السوري بمحاربة الشعب بأكمله ووضعه في قفص الاتهام من خلال الحواجز التي تطلب هوية المتهم عشرات المرات في اليوم، وبالفعل فإن جميع السوريين كانوا يشعرون بأنهم مذنبون، ولطالما كانوا يفكرون بمخرجٍ أمني علمًا أنهم لم يقوموا بالإساءة للسلطة. 

جميع السوريين كانوا يشعرون بأنهم مذنبون، ولطالما كانوا يفكرون بمخرجٍ أمني لحياتهم

وهنا تبرز خطورة الضمير التسلطي الذي يتغذى من السلطة، لأن هذا الضمير النابع من داخل الفرد هو رجل الأمن الحقيقي الذي يجعل الإنسان يقوم ببحث عميق عن أي إساءة أو زلة لسان أو حتى منشور على مواقع التواصل الاجتماعي كان قد ارتكبه، ولأن الخوف المزروع في عقل الفرد يمكنه أن يجعل من النملة فيلًا سوف يشعر الفرد بأن ضميره سيؤنبه على كل فعلٍ قد يقوم به تجاه السلطة، ويبدأ باتخاذ الاحتياطات اللازمة لمسح كل أخطائه التي لم يقم بها أصلًا، وقد يتجه إلى حالة من التدميرية نحو ذاته ونحو الآخرين أيضًا من أجل إرضاء السلطة، وإعادة تفعيل دورة الأمان التي كان يشعر بها.

عندما قامت الثورات العربية من خلال صحوة الضمير التسلطي السيئ -المناهض للسلطة- لدى الشعوب المسكونة بسيطرة طويلة الأمد، وأمام صدمة العالم المتحضر الذي يدعي امتلاكه للضمير الإنساني، كان لا بد من إعادة الدور الجيد للضمير التسلطي لدى المتمردين من خلال خلق سلطات جديدة وطارئة تقضي على تماثل الشعوب وتعيدهم لدوامة الخضوع والسيطرة، والذي إن نجح في مسعاه فسوف يحفر عميقًا في ضمير الفرد الذي سيراجع نفسه ألف مرة قبل أن يسيء إلى ضميره التسلطي مرةً أخرى. 
 
اقرأ/ي أيضًا:

الطائفية .. كما تراها صديقتي المغربية

الموقف العلماني.. عن الإنسان والسلطة