25-مارس-2016

غرافيتي لـ هيجل

يعتبر الفيلسوف الألماني فريدريك ولهايم هيجل أول من وضع الأساس النظري لمفهوم الاعتراف باعتباره محور الصراع بين الذوات، وذلك في كتابه الشهير "فينومينولوجيا الروح"، من خلال تحليله لجدلية الصراع بين العبد والسيد.

تكتسب مواجهة الآخر أهمية مزدوجة من حيث تشكيل الوعي الذاتي

إن لمواجهة الآخر حسب هيجل أهمية مزدوجة بالنسبة لتشكيل الوعي الذاتي، فهو أولًا يفتقد ذاته لأنه يجدها في كائن آخر، وهو ثانيًا يحل محل الآخر إذ لا يرى فيه كائنًا جوهريًا مختلفًا عنه بل يرى ذاته في الآخر، الشيء الذي يتولد عليه صراع لا يمكنه أن ينتهي بموت أحد الطرفين، لأن موت أي طرف يعني فقدان الوعي الذاتي فرصته في الحصول على الاعتراف، إنه صراع ينتهي بطرف فائز مستقل وطرف تابع منهزم، الطرف الفائز (السيد) هو الذي يدمر الاعتماد على الحياة، أما الطرف المنهزم (العبد) فهو الذي يفضل الحياة على الموت ويمتنع عن تدميرها. وهذا ما يعبر عنه هيجل بقوله "الدليل الوحيد لتحقيق الاعتراف بالذات هو خطر الموت".

اقرأ/ي أيضًا: الفلسفة والأدب.. سردية حب معلن

لا بد من التمييز بين الفلسفة الاجتماعية المعاصرة التي تعبر عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي عرفتها المجتمعات الحديثة وعلى رأسها الثروة الفرنسية، وبين الفلسفة السياسية الكلاسيكية التي تهتم أكثر بطبيعة الدولة وبأفضل نظام سياسي يمكن تحقيقه وفقا لقيمتي العدل والحرية.

يعد الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (الجيل الثاني من مدرسة فرانكوفورت النقدية)، وتلميذه أكسل هونيث (الجيل الثالث من نفس المدرسة ومؤسس فلسفة الاعتراف) من أبرز رواد هذه الفلسفة الاجتماعية والتي تختلف عن السوسيولوجيا والعلوم الاجتماعية، نظرًا لتميزها بالمقاربة الأخلاقية للمسألة الاجتماعية انطلاقًا من التحليل النقدي لمختلف الظواهر الاجتماعية والسياسية، خاصة ما اصطلح عليه بالأمراض الاجتماعية. وتعود أصول هذه الفلسفة الاجتماعية إلى الماركسية خاصة في صيغتها الفرانكفورتية (نسبة إلى مدرسة فرانكفورت) حيث لا تكتفي بوصف الوقائع الاجتماعية، وإنما تسعى كذلك إلى المساهمة في التحليل النقدي الذي يسمح بتغيير المجتمع، ما يجعلها فلسفة مسيسة تنطلق من فكرة الصراع الاجتماعي والسياسي.

اقرأ/ي أيضًا: مقاومة الموت

إن هذه المقاربة الجديدة جاءت نتيجة لتظافر جهود مجموعة من الفلاسفة مثل بول ريكور، هابرماس، تشارلز تايلور، أكسيل هونيت، ناسي فريزر.. حيث أصبح مفهوم الاعتراف من خلال إسهاماتهم النظرية المتميزة يعبر عن مختلف أشكال النضال والصراع المتصلة بقيم العدل والحرية والمساواة، وأصبحت توظفه مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، ويتعلق الأمر بمجال المرأة أو العمل أو الثقافة، وبخاصة ما يتعلق بالحقوق الثقافية للأقليات، بمعنى أنه أصبح معبًرا عن مختلف أشكال النضال ضد الهيمنة الليبرالية وزمن العولمة، وذلك بتشخيص أمراضها الاجتماعية وتقديم أنواع العلاجات المناسبة لها، كذلك فإن المجال المناسب للاعتراف هو مجال الديمقراطية التداولية بما هي تدبير سياسي قائم على التشاور والتداول، وإذا أضفنا مقتضى العدل المادي والرمزي، فإن ذلك سيمكننا من تجاوز عدم كفاية النموذج الليبرالي، بخاصة من جهة العلاقة النزاعية التي تطرحها النزعة الجماعية.

الاعتراف أساسًا هو استجابة لتطلعات أخلاقية تم إحباطها أو اغتصابها بطريقة غير مستساغة

إن الصراع في حد ذاته كتجربة يعود إلى الفشل والإحباط من عدم تحقق الوعود وعدم تلبية المطالب بالإضافة إلى طول الانتظار من أجل تحقيق ماهو ضروري للهوية الفردية والجماعية، وتوفير الظروف الاجتماعية المناسبة لقيام علاقة إيجابية مع الذات ومع الآخرين. وفي نفس الاتجاه الذي رسمه هيجل يؤكد هونيث بأن تشكل الذات والهوية مرتبط بالاعتراف المتبادل بين الذوات (العبد والسيد) أي أن الاعتراف ليس معطى مباشرًا وإنما هو حصيلة صراع ونزاع بين الطرفين. لذلك يتكون الاعتراف من ثلاثة مجالات وهي: الحب والقانون والتضامن، حيث يعيش الأفراد والجماعات تجارب الاعتراف المتبادل الذي يسمح لهم ببلوغ درجة معينة من الاستقلال الذاتي، حيث يحصل الفرد في المجال الأول على الثقة بالنفس، وفي المجال الثاني على الاحترام، وفي المجال الثالث على التقدير.

لكن من الممكن أن يكون الفرد في هذه المجالات الثلاث موضوعًا للإذلال ينتفي معهما الاعتراف به، ففي المجال الأول يمكن أن يكون ضحية قسوة وسوء معاملة، وفي المجال الثاني يمكن أن يحرم من حقوقه ويتم إقصاؤه اجتماعيًا، وفي المجال الثالث يمكن أن يتعرض للمهانة والإذلال مثل العنصرية أو التجارب التي تهدد الشخص في كرامته.

لذلك يرى هونيث بأن المنطق الذي يجب أن يتحكم في الصراع ليس هو فقط المصلحة والمنفعة، بل ينبغي استحضار النموذج الأخلاقي القائم على الاعتراف بالآخر والتعامل معه على هذا الأساس، فالاعتراف أساسًا هو استجابة لتطلعات أخلاقية تم إحباطها أو اغتصابها بطريقة غير مستساغة وغير شرعية، ومن جهة أخرى فهو تعبير عن حاجة ذاتية ويشكل بذلك صفة ملازمة للطبيعة الإنسانية.

خلاصة القول؛ يمكن التأكيد بأن الاعتراف يمثل اليوم ثقافة جديدة في المجتمع بل أصبح عنوانًا للفلسفة السياسية والاجتماعية الجديدة التي تكشف عن عدم كفاية النموذج الليبرالي، لكن من جهة أخرى يمكن اعتبارها تعزيزًا لهذا النموذج بإقرارها لقيمتي المساواة والحرية اللتين تشكلان أساس النظرية الليبرالية. بالإضافة إلى ذلك فإن مفهوم الاعتراف لا ينبغي النظر إليه كغاية في ذاته ما دام يعد بمثابة مقدمة لمشاريع جديدة، وكما يقول بول ريكور فإن الاعتراف يجب أن يحمل على القدرات وليس على الهويات المغلقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الكتابة والمنفى.. تلك الهوية الرمادية

لاهوت التحرير والتنمية